في التاسع من أبريل عام 2003 دخلت الدبابات الأميركية عاصمة الرشيد بعد أن وصل الغزو الأميركي ـ البريطاني إلى احتلال المناطق العراقية في الجنوب والشمال والشرق والغرب.
وباحتلال بغداد تعلن قوات الغزو احتلالها كل العراق. وتعلن سلطتها التي قدم معها المعارضون على ظهور الدبابات وفي بطون الطائرات من أوروبا وأميركا وبعض دول جوار العراق. وقد أعلن الحاكم الأميركي للعراق ومن معه من (العراقيين) أن يوم التاسع من أبريل (نيسان) هو (اليوم الوطني للعراق)، في سابقة لم تعرف لها البشرية مثيلا .. أن يصبح يوم الاحتلال يوما أو عيدا وطنيا مفروضا على الشعب الذي يفقد حريته وكرامته وأمنه الوطني والشخصي. فالاحتلال نقيض الحرية والديمقراطية، وهو تعدٍّ على الكرامة الوطنية والشخصية لكل مواطن يقع وطنه تحت الاحتلال. لذلك ما لبث الوافدون مع الاحتلال أن تخلوا عن القرار بفعل الضغط والرفض الشعبيين له.
لن نذهب بعيدا في الحديث عن أسباب الغزو الذي كان بداية غير مبرر وفاقدا للشرعية الدولية والأدبية والأخلاقية .. من مزاعم (أسلحة الدمار الشامل إلى الحديث عن توريد الديمقراطية للعراق ليكون أنموذجا يحتذى في المنطقة إن لم نقل في العالم أجمع).
الاحتلال العسكري المباشر للعراق دام نحو تسع سنوات، فقدت خلالها الولايات المتحدة أكثر من خمسين ألف مقاتل بين صريع وجريح وحلت لعنة العراق بأكثر من مئة وخمسين ألفا ممن قاتل في العراق من الأميركيين. الخزينة الأميركية فقدت ثلاثة تريليونات دولا ر في حربها على العراق واحتلاله وغزوه. أما العراق فلقد دفع نحو مليون ونصف المليون من أبنائه ضحايا الاحتلال وما نتج عن الاحتلال من حرب ساحقة دامت ثلاثة أعوام .. حرب بين مكوناته الدينية والمذهبية، بقيت آثار هذه الحرب شبحا يحوم فوق رؤوس العراقيين إلى يومنا هذا، ويهدد مستقبل العراق في وحدته وفي أمنه ووحدة شعبه ومستقبله.
ولكن احتلال بغداد في ذلك اليوم الأسود كان في الوقت عينه إيذانا باندلاع حرب المقاومة الشعبية للاحتلال ليسجل التاريخ الإنساني أن المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأميركي كانت الأسرع على الإطلاق.
ولكن الاحتلال شرعن منذ البداية ما يؤدي إلى تمزيق العراق: فالخطوة الأولى كانت حل الجيش العراقي الذي كان يرهب إسرائيل. والخطوة التالية كانت تنصيب من كانوا من العراقيين قد ترعرعوا في أحضان المحتلين والمستعمرين والعدوانيين من الغربيين والأميركان. كما أن الحشد الإعلامي غير المسبوق ضد العراق كان قد بدأ يتحدث ـ فور الاحتلال ـ عن عراق بثلاثة مثلثات (مثلث كردي ومثلث سني وثالث شيعي). هذا الحديث جاء لكي يحدث بالتالي ما كان قد خطط للعراق والعرب من ضرورة تمزيق الممزق وتقسيم المقسم من أقطارنا العربية رسما لسايكس ـ بيكو ثانية أو ما يسمى أميركيا (الشرق الأوسط الجديد) أو الكبير.
الاحتلال الأميركي للعراق فتح أرضه وسماءه أمام كل طامع بالعراق؛ موقعا ومكانة ومستقبلا ونفطا وثروة. إلى العراق تسللت مجاميع من الحركات والتنظيمات العصبوية المذهبية والإرهابية من مثل القاعدة. كما أن العراق انفتحت أبوابه على تسلل الاستخبارات الغربية والأميركية والإقليمية. ومن ذلك الموساد الصهيوني.
صار العراق مرتعا لدعوات التشرذم وبيئة خصبة للفتنة المذهبية والعرقية. وجاء دستور الحاكم الأميركي بريمر ليشرعن التقسيم ويمهد له. الأقاليم بدعة للتقسيم وكان الإقليم الأول هو (كردستان)، وأحبط العراقيون مشروع فيدرالية الجنوب، كما رفض العراقيون وأحبطوا فيدراليات الوسط والغرب والشمال. رفض العراقيون تقسيم ما بقي من العراق بين مكونيه المذهبيين في الشمال والغرب والجنوب. كما أن الدستور حمل ما يهدد عروبة العراق حين قال إن عرب العراق جزء من أمة العرب وشطب على عبارة أن العراق جزء لا يتجزأ من الوطن العربي.
القوى التي جاءت إلى العراق مع الاحتلال هي التي تتسيد اليوم المشهد السياسي. قوى وأحزاب وحركات يغلب عليها الطابع المذهبي والإسلام السياسي، والرغبة في الثأر أو الانتقام مما قيل إنها سنوات طوال من العزلة والظلم الذي طال هذا المكون العراقي في الجنوب. شرع في العراق قانون (الاجتثاث) الذي بموجبه حرم أكثر من مليوني عراقي من حقوقهم الطبيعية كمواطنين عراقيين. كما أن السجون غصت بعشرات الآلاف ممن طالهم القانون ومن بعده (قانون المساءلة). ولكن أبشع ما حصل في العراق بسبب الغزو الأميركي هو الفتنة الأهلية المذهبية التي كانت سانحة للصهاينة والمستعمرين الغزاة لقتل أكبر عدد من العراقيين، ووضع العراق على صفيح ساخن ومهدد في كل حين بالحرب والاقتتال بين أبنائه. حصاد القتال الداخلي كان أكثر من مليون ضحية، وأكثر من أربعة ملايين أرملة ويتيم، وأكثر من ثلاثة ملايين مشرد ونازح في الداخل والخارج، وانعدام الأمن والأمان، واختلاط الحابل بالنابل بين المقاومة المشروعة الشريفة للاحتلال وبين دعاة الفتنة والقتلة والإرهابيين الذين ملأوا العراق من الشمال إلى الجنوب.
أصبحت المداخلات الفظة في الشأن العراقي أمرا طبيعيا وعاديا. وأعني التدخلات الإقليمية ـ المذهبية إلى جانب ما يرتكبه المحتلون من مجازر وجرائم يندى لها جبين الإنسانية.
خرج الاحتلال العسكري المباشر من العراق بعد نحو تسع سنوات من الاحتلال والتدمير, لكن العراق ظل مربوطا بالمحتلين لآجال قادمة عبر الاتفاقية الأمنية السياسية المبرمة بين حكام العراق من العراقيين وبين حكام العراق من الأميركيين.
ولم تنشر حتى اليوم تفاصيل الاتفاق السياسي والأمني بين الطرفين.
الديمقراطية في العراق ليست أكثر من شعار لتزيين ما يجري من هضم للحقوق المدنية والوطنية لكل العراقيين بمن فيهم الكرد في الشمال ـ في الإقليم الذي صار له علم ونشيد وجيش وبرلمان ورئيس ووزارة.
أيضا صار الحديث عن مناطق متنازع عليها بين الإقليم الكردي وبعض المحافظات حديثا خطيرا يهدد وحدة العراق. وتتصرف الحكومة الإقليمية في الشمال (الكردي) وكأنها حكومة مستقلة، كما تشجعها الأطماع الإقليمية: مثل عقد اتفاقيات نفطية بعيدا عن بغداد المركز، ومثل قيام وزراء أتراك بزيارات للإقليم دون الرجوع إلى بغداد، ومثل الحديث عن محافظة كركوك وضرورة ضمها للإقليم الكردي. وتتسع خارطة الإقليم المطلوبة لتشمل أجزاء من الموصل وأخرى من شرق بغداد إلى ديالى.
اليوم العراق بلا جيش قوي، بلا خدمات، أزمات متفاقمة ودائمة تتصل بقطاع الخدمات وبالكهرباء والماء والوقود. وادي الرفدين يعطش أهله، وتعطش أرضه، وعراق النفط في ضائقة نفطية، والكهرباء التي دمرها الغزاة لم يقوموا بإصلاحها رغم مكوثهم العملي لسنوات تسع وهم أقوى قوة دولية ومتقدمة في العالم. وتصول الشركات الأمنية في العراق وتجول، وحبل السرقة من المال العام على غاربه، والسرقات الكبرى تمت أثناء الاحتلال المباشر مثلما فعلت (هاليبورتون) التي هي تحت هيمنة رئيسها ديك تشيني نائب الرئيس الأميركي جورج بوش. نهبت علانية أكثر من أربعة عشر مليار دولار لقاء اتفاقات مبرمة مع حكومات نصبها الاحتلال لإعادة إعمار العراق ولم تقم بأي عمل سوى توسيع بعض السجون، وبناء سجون جديدة لاستيعاب الأعداد المتزايدة من المعتقلين العراقيين.
أما السرقات والنهب من الداخل فعنها حدث ولا حرج: عشرات المليارات فقدتها الخزينة العراقية خلال السنوات الماضية ولا أحد يعرف أين مستقرها. والنفط العراقي ما زال يسرق من الداخل كما من الخارج؟
حال العراق اليوم بعد عشر سنوات على الاحتلال يعني: أنه مهدد في وحدته كما في أمنه. إن هناك من يعيث بأمن الوطن فسادا وإفسادا، والقوى السياسية الطافية على السطح تتناطح على المحاصصة. وشعب العراق في واد آخر. إنه يفكر في عيشه وفي أمنه الذاتي، وفي وطن موحد وسيد بعد أن أعملت القوى الطافية على السطح معول الهدم في الجسد العراقي وفي الروح العراقية.
تهديدات يومية بانفصال إقليم الشمال ـ الكردي ـ وقد امتلك كل مقومات الدولة. تهديدات أمنية يومية وتفجيرات في المناطق الساخنة لتأجيج نيران الفتنة المذهبية بل والعرقية أيضا. وخوف من امتداد وتأثير الحدث السوري في العراق. ومطامع إقليمية تدس أنوفها في الشأن العراقي يوميا من الشمال ومن الشرق كما من الغرب البعيد.
مستقبل العراق غامض لكنه مفتوح على أسوأ الاحتمالات، بما أن القوى الفاعلة السياسية محكومة بتركيبتها الطائفية وميولها الانقسامية، والانخراط يوميا في معارك من أجل المحاصصة، لا من أجل مصلحة الوطن والشعب ومستقبلهما.
ولنلاحظ أن الضغط والحقن الطائفي والمذهبي يهدد العراق في وحدته بين مكون يشعر بأنه مقصي ومغبون، ومكون يتخذ شعارا هو (ما ننطيها)؛ أي السلطة. وهو شعار أطلقه المالكي علنا قبل نحو ثلاث سنوات.
نواف أبو الهيجا/عشر سنوات على احتلال بغداد: العراق إلى أين؟
12
المقالة السابقة