تحمل المنطقة اليوم آثار زلزالين عنيفين أطاحا أنظمة وموازين قوى وساهما في إطلاق رياح الحرية والتغيير والتفتت وحروب المكونات. انطلق الأول حين أطبقت الآلة العسكرية الأميركية قبل عشرة أعوام على نظام صدام حسين. وانطلق الثاني حين هبت رياح «الربيع العربي» على عدد من دول المنطقة. أطاح الزلزالان مرتكزات الأمن والاستقرار السابقة. أدخلا المنطقة في مرحلة انتقالية تختلط فيها الأحلام بالأوهام وتشهد سباقاً محموماً بين الحالمين بالدولة المدنية والمطالبين بالدولة الدينية.
في مثل هذا الشهر قبل عقد ارتكبت إدارة جورج بوش مجازفة غزو العراق ما أدى إلى تغييرات في المنطقة. لم تستطع واشنطن إدارة التغيير في مسرح عملياتها ولا ما ترتب على نزع الحجر العراقي من جدار نظام الأمن العربي. يستطيع المراقب ملاحظة جملة من التغييرات:
– أدى قيام الاحتلال بشطب مؤسسات الدولة العراقية خصوصاً العسكرية والأمنية إلى تصاعد المقاومة وسط رغبات إقليمية بإفشال الغزو خوفاً من قيام عراق ديموقراطي موال للغرب يمكن أن يطلق إشعاعاته على الدول المجاورة.
أدت العملية السياسية التي أعقبت الغزو إلى قيام عراق فيديرالي، وهكذا ارتسم الأساس الدستوري والقانوني لإقليم كردستان العراقي. ولهذه الولادة آثار تتخطى ما شعرت به الأقليات الكردية الموزعة في المنطقة لتصل إلى الأقليات الموزعة فيها. كما أدت العملية السياسية إلى محاصصة طائفية ساهم اضطرابها في تعزيز التنازع السني – الشيعي وتسهيل عودة «القاعدة» إلى مناطق أخرجت منها.
– حقق الغزو لإيران حلماً كان تعذر عليها تحقيقه إبان حربها الطويلة مع العراق وهو إسقاط صدام حسين والتسلل إلى موقع القرار في بغداد. تعاملت إيران بدهاء مفرط مع الغزو قبل وقوعه واتخذت سراً قرار إفشاله. دعمها الميليشيات التي تقاوم الأميركيين لم يمنع رئيسها محمود احمدي نجاد من زيارة «المنطقة الخضراء» التي كانت رمزاً للاحتلال الأميركي. إسقاط نظام صدام حسين أخل بميزان القوى لصالح إيران ومنحها ما يمكن تسميته السنوات الذهبية التي شهدت أيضاً حرب تموز في لبنان وحرب غزة.
يمكن القول إن هذه السنوات الذهبية أصيبت بانتكاسة هائلة مع اتضاح النكهة الإخوانية لـ «الربيع العربي» وتصاعد النزاع السني – الشيعي خصوصاً بعد اندلاع الثورة السورية واتخاذ إيران موقفاً ألهب المشاعر السنية ضدها، وحوّلها جداراً يعترض برنامجها في الإقليم.
– أصيبت سورية بالذعر لرؤية الجيش الأميركي يرابط عند حدودها بعدما اقتلع البعث المنافس وتماثيل رئيسه. اتخذت سورية بالاتفاق مع إيران قراراً بإفشال الغزو الأميركي وسهلت مرور الجهاديين وعناصر «القاعدة» إلى العراق. هذا التحالف الميداني بين دمشق وطهران ازداد عمقاً ووثوقاً بعدما اضطرت سورية إلى سحب قواتها من لبنان اثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري وبات النفوذ السوري في هذا البلد يمر عبر «حزب الله «. وجاءت حرب تموز في 2006 لتخلط الأوراق ولتعطي إيران أرجحية حاسمة داخل تحالفها مع سورية وهو التحالف الذي منع استقرار أي حكومة غير موالية له في لبنان. الحرب نفسها التي أدخلت الصواريخ الإيرانية في معادلة الأمن الإسرائيلي ذكّرت دول أميركا والغرب بأن إيران باتت قادرة على التأثير في الملفين الأكبر في المنطقة، وهما أمن النفط وأمن إسرائيل.
تحولت المواجهة الضارية المفتوحة في سورية إلى ما يشبه الزلزال الذي يهدد النظام السوري وكذلك المكاسب التي حققتها إيران بفعل الزلزال الأول لجهة ضمان حضورها على المتوسط فضلاً عن الارتدادات المحتملة على الوضع في العراق نفسه. يهدّد الزلزال الثاني مكاسب السنوات الذهبية لإيران التي لا تستطيع خسارة الدور في وقت يذكّرها العالم أن القنبلة محظورة. تعيش إيران بين آثار زلزالين. يمكن القول إن المنطقة تعيش في الوضع نفسه تقريباً.
غسان شربل /إيران بين زلزالين
23
المقالة السابقة