” .. كل لاعبي حلف شمال الأطلسي” الناتو” بمن فيهم تركيا ذات الطموح الكبير، وكذلك من يسمون “أصدقاء الشعب السوري”، ومعظم إن لم نقل كل “الممولين الرئيسين للمعارضة السورية بالمال وسواه”.. كل أولئك لا يخرجون، ولا يمكن أن يخرجوا، عن الخطوط والدوائر التي ترسمها الولايات المتحدة الأميركية.”
حلف الناتو موحد، ولكن هناك خصوصيات وهوامش لكل دولة عضو فيه تحافظ عليها وتقاتل من أجلها، والاتحاد الأوروبي موحد كذلك، والدول الرئيسة في رعاية المعارضة السورية، مسلحة وغير مسلحة، متقاربة إلى حد ” التوحد” في ظواهر ومختلفة في بواطن وظواهر حول أمور وتفاصيل.. ولكل من أولئك ما يحققه في الحرب الدائرة في سوريا، تلك التي تطحنها وشعبها، وله أيضاً مأرب من الحرب ومصالح بعدها.. ولذا نجدنا اليوم أمام تراكض “كبار الشركاء” لحجز مكان مناسب لهم في موقعي الحل العسكري والحل السياسي اللذين يبدو أنها سيتساوقان إن بدأ الثاني مع استمرار الأول أي العسكري.
ففي الوقت الذي تعلن فيه روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأميركية عن توجههما نحو حل سياسي “يفاوض فيه الرئيس بشار الأسد المعارضة” حسب تعبير الوزير جون كيري، تنفيذاً وتطبيقاً لاتفاق جنيف /30/6/2012/ نلحظ استنفاراً بريطانياً وفرنساً سريعاً لتسليح المعارضة السورية بأسلحة نوعية، حتى خارج حدود قرار الاتحاد الأوروبي الذي يشير إلى ” حظر” تزويدها بأسلحة فتاكة.. ونجد الوزير البريطاني وليم هيج على خطا الوزير الفرنسي فابيوس الذي قال: إن «فرنسا، وهي دولة سيدة، ستعمَد إلى تسليح المعارضة السورية مع بريطانيا من خارج الإتحاد الأوروبي»؟!.. هذا الأمر يعلن عنه الآن من الدولتين مع محاولتهما إبقاء شعرة الارتباط في الموقف الأوروبي قائمة في هذا المجال، وذلك باستعجال إعادة بحث موضوع رفع الحظر عن تزويد المعارضة السورية بأسلحة نوعية، في دبلن بعد أسبوع. والطريف في الموقف الأميركي الذي يتوافق مع الروسي بشأن التفاوض أنه يؤيد الموقف البريطاني ـ الفرنسي في موضوع التسليح ذاك؟! بالله فسروا لنا هذه الحربائية أو الزئبقية أو ما شئتم أن تسموها، إن كان لديكم ثمة تفسير؟!.
لكن الأمر لا يحتاج من وجهة نظري إلى كد ذهن أو إلى شطارة، فكل لاعبي حلف شمال الأطلسي” الناتو” بمن فيهم تركيا ذات الطموح الكبير، وكذلك من يسمون “أصدقاء الشعب السوري”، ومعظم إن لم نقل كل “الممولين الرئيسين للمعارضة السورية بالمال وسواه”.. كل أولئك لا يخرجون، ولا يمكن أن يخرجوا، عن الخطوط والدوائر التي ترسمها الولايات المتحدة الأميركية. والإعلان عن التسليح ” من خارج موافقة الاتحاد الأوروبي” ليس جديداً على بريطانيا وفرنسا وليس خافياً ولا بعيداً عن تخطيط الولايات المتحدة الأميركية.. فالتسليح قائم ومستمر منذ زمن، في صفقة كرواتيا وسواها من المصادر، ولكن الأسلحة الغربية النوعية لا يمكن استخدامها قبل التدريب عليها، وحين أصبحت العناصر التي تدرب في الأردن بإشراف أميركي – بريطاني – فرنسي.. إلخ جاهزة لاستخدام ذلك النوع من السلاح تم الإعلان عن توريده للمعارضة. والقاعدة الأميركية في الأردن التي أنشئت منذ سنوات تستطيع أن تخرج ما يصل إلى 600 عنصر مدرب كل ستة أشهر، هذا عدا عن الدورات السريعة التي تقتضيها الأماكن التي تدير فيها الولايات المتحدة الأميركية حروبها أو تحرك فيها ما تسميه ” الفوضى الخلاقة”.. ومن ثم لا يوجد شيء بعيد أو خفي عن العين الأميركية في هذا المجال. أما ما بدا ” تمرداً نزقاً” من الفرنسي والبريطاني على الاتحاد الأوروبي فهو لا يعد خروجاً على الأميركي من جهة، وإن كان يحمل غمغمة استنكارية مفهومة لديه.
فالكبار من الشركاء في موضوع الحرب على الأرض السورية يتحركون بنزق في القفص الذهبي، إنهم يريدون أنصبة أكثر من العائدات التي تترتب على إعادة إعمار سوريا بعد أن شاركوا في تدميرها، ويريدون موقعاً في رعاية الحلول التفاوضية الجاري بحثها بين الروس والأميركيين، ويريدون حضوراً في المشهد السوري في أثناء البحث عن اتفاق وبعد التغيير المطلوب والتحول إلى العهد الجديد، ويريدون حماية من يوالونهم من السوريين في خارج سوريا وداخلها، ليكون لأولئك، ومن ثم لهم من خلالهم، دور ونفوذ وموقع وفاعلية في سوريا ما بعد الحل السياسي والتغيير.
الأميركي يدرك هذا، ويدرك أنه يحتاج إلى حلفائه والموالين له، ولا يريد أن ينفرهم أو يضعف دورهم لأن اللعبة أكبر من سوريا، ومواجهة الروسي الناهض الذي يشكل مركز استقطاب عالمي ويعلن نهاية القطب الوحيد في السياسة الدولية ويريد تطبيق القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة بوحدة معايير وحسن تفسير وتدبير.. لا بد لمواجهته من تماسك التحالفات الأميركية، المعلنة والمخفية.. إضافة إلى أنه قد بقيت مراحل مهمة في مخططه للمنطقة عامة ولسوريا خاصة لم تنفذ بعد وتحتاج إلى متعاونين لتنفيذها بنجاح، ومن ذلك في سوريا على الخصوص تصفية أطراف وقوى سورية وأخرى عربية وإسلامية على الأرض السورية يرى ضرورة تصفيتها وإضعافها بصورة تامة، إذا ما بقيت لها قوة وشوكة وحضور بعد الحرب المستمرة حتى الآن، سواء أكان ذلك بأيدي السوريين المعارضين المطلوب اقتتالهم لاحقاً: ” علمانيين وإسلاميين، أو جيش حر وجبهة النصرة وأشباهها”، أو بيد الجيش العربي السوري الذي ينبغي أن ينهِكهم وينهكونه حتى لا تبقى لسوريا قائمة ـ إن هم استطاعوا فعل ذلك ـ لمصلحة ” إسرائيل” واحتلالها واستيطانها وتهويدها للقدس وفلسطين كلها، ولتنفيذ المشاريع الأميركية الكثيرة والكبيرة في المنطقة. والأميركي يسعى إلى طمأنة شركائه وحلفائه وأدواته من جهة ويريد أن يصل مع الروسي إلى ” تعاون” بغية إيجاد حلول لملفات أخرى في العالم من جهة أخرى ولذا يهمه ضبط الإيقاع وضمان رضا الأصدقاء والتابعين والدافعين والمدافعين عن سياسته ومصالحه.. أما الروسي فإنه يدرك الكثير من المرامي الأميركية، ويسعى إلى تعزيز حضوره على الأرض في البر والبحر، ويطمئن أصدقاءه، ويمارس رياضة صبر الدب الأبيض السيبيري وإن في المناطق الحارة.. ولكنه يضيق ذرعاً بالخدع الأميركية ونتائجها وبكثرة اللاعبين في المشهد السوري، كما يضيق بالنزق السياسي وانكاساته وبالتسليح غير القانوني لا سيما من دول لمعارضات حيث يتعارض ذلك مع القانون الدولي.. وتترتب عليه تبعات قد تؤدي إلى دفن محاولات البحث الجاد على حل سياسي يأخذ طريقه إلى العمل.. وكل ذلك يجري بينما الدم في سوريا يسيل، والدمار يتواصل، ودائرة انتشار الحدث في المنطقة تتسع.. إلخ.. إنه يريد من الأميركي أن يلجم الخيول الجامحة في الحلبة التي يسيطر عليها، لاس يما الخيول العربية من سلالة داحس والغبراء، لأن عدم القيام بذلك قد يؤدي إلى مضاعفات خطيرة جداً.. بل كارثية لا سيما على الصعيد الإنساني حيث ملايين السوريين مشردين في الداخل والخارج.. والحبل على الجرار.. فضلاً عن إطالة أمد الصراع الدامي في سوريا وانتشاره في كل اتجاه من حولها.. ولذا نراه يحار في الموقف الأميركي، لا سيما بعد أن أيدت الولايات المتحدة الأميركية تفلّت بريطانيا على الخصوص من موضوع عدم تسليح المعارضة بأسلحة نوعية في إطار ضبط التسلح ومنع تسرب أسلحة نوعية لجبهة النصرة ومن هم على شاكلتها ممن تصنفهم ” إرهابيين”، وإخفاق لافروف في الاتفاق مع هيغ على الحل السياسي والانطلاق نحو بداية التفاوض في سورية بين وفد سوري رسمي تم الإعلان عن تشكيله برئاسة رئيس الوزراء الدكتور وائل الحلقي وخمسة وزراء معه، ووفد للمعارضة ينتظَر تشكيله لكي تبدأ بسرعة جلساتٌ تمهيدية للحوار في موسكو أو جنيف أو فيينا.
من المؤسف أننا هنا، وفي هذه الحالة البالغة درجات أدنى من الدنيا في البؤس والخوف واليأس.. لا نجد تفهماً تاماً مجمَعاً عليه من السوريين كافة، لا سيما من يتنطعون للقيادة والريادة، لما يحيط بهم وينتظرهم، إن هم استمروا على ما هم فيه وما هم عليه..!! إن من يرى إلى وجوه الناس وما حل بالبلد وعمرانها وزراعتها وطروشها وربوعها في “ربيعها”، وما يتفشى فيها من أمراض اجتماعية تتصل بالعلاقات وبالقيم والسلوك والروح.. وأخرى تتصل بالجسد والصحة العامة ومتطلبات العيش في أبسط متطلباته وصوره، مع انتشار ظاهرة تجار الحروب بين أوساط من يتاجرون بكل شيء في البلد.. من الدم إلى الجسد ومن الرغيف إلى الخضار.. إن من يرى إلى ذلك و” يتعشَّم” أنه وضع لا بد من أن يفضي بالمعنيين بالأزمة وتفاصيلها إلى إحساس بمعاناة الناس وإلى الاستماع إلى صوتهم ومطالبهم التي يتشدق أولئك ” الأزمويون الدمويون” بأنهم ينطقون باسم الشعب ويصدرون عن إرادته وتطلعاته.. ومن ثم يقودهم إلى مراجعة للذات والحسابات والوسائل والأدوات والغايات.. تفضي بهم تقوى الله في النفس التي حرم الله، وإلى تقارب وتفاوض وتحاور، بعيداً عن تأثير ذوي المخططات والغايات والمصالح والبائس من السياسات والأساليب والتطلعات.. لكي يصلوا إلى إنقاذ لما تبقى من وطنهم ومواطنيهم وقيمهم وتراثهم..إلخ، ولكي يرقوا إلى أدنى درجة مما تتطلبه المواطَنة الواعية لحقوقها وواجباتها، والوطنية السليمة في سبل أدائها، والانتماء الحق البناء لسوريا: “الأرض والشعب والتاريخ والموقع والموقف الحضاريين”. إن المرء ليستغرب أنه في الوقت الذي يصيح فيه السوريون بلسان واحد، من خلال الدم والدمع، أن: ” أوقفوا العنف.. نحن السوريين نريد وقف العنف..”.. أنه في الوقت ذاته يشتد السعي إلى التسلح الذي فيه مزيد من إراقة الدماء والإفناء، وإلى المكابرة وتجاهل ما يريده الناس، ويتكلم الرصاص بلسان كل الأطراف ” الأزموية” التي تقول إنها تمثل الشعب وتعمل بإرادته وتحميه وتعمل على تحقيق الأمن والخبز والكرامة والحرية والعدالة له، وتريد تحرير إرادته وأرضه المحتلة..؟!
ألا فلنسمع جواباً على سؤال يقول: هل في قتل الناس إحياء وتحرير وحماية لهم؟! وهل في تدمير سوريا وفسح المجال لمن يريد أن يمتص دمها بذريعة أنه يعيد إعمارها.. هل في ذلك صون لها ولاستقلالها وسيادتها من الانتهاك والانهاك؟؟ وهل فيه تقدم بها وبشعبها في مجالات التنمية والنهضة والعلم والتقانة والمعرفة والمستوى الحضاري؟!.. ألا فلنسمع أجوبة مقنعة على أسئلتنا المرة، وكلنا آذان تصغي لمتكلم منصف حصيف.
كاتب وأديب سوري