أمس، كانت الذكرى الثامنة لانتفاضة 14 آذار (مارس) اللبنانية التي أقنعت الدول الكبرى بأن ثورة شعب تستأهل الاستجابة لتطلعاته بالاستقلال والسيادة، فضغطت من أجل إنهاء التفويض الغربي لسورية بحكم لبنان بالقهر والاستبداد والقمع والاستخبارات. ولولا هذه الانتفاضة لما كان الغرب نزع هذا التفويض وأنهاه في شكل حاسم.
واليوم تمر الذكرى الثانية لانتفاضة 15 آذار السورية في وجه طغيان نظام استبد بسورية وأهلها ومارس على شعبها أبشع أنواع القمع والإخضاع والإرهاب على مدى أكثر من 4 عقود وحوّلها من بلد غني بمختلف ميادين الحياة الى ساحة لنهب خيراتها من جانب حفنة من الحكام أتقنوا اللعب على التناقضات وإشعال الساحات الإقليمية لنيل صفة الإطفائي الذي يستطيع إخماد الحرائق بعد أن يكون أطلقها.
في الحالين، لم تكن الدول الكبرى تنتظر الانتفاضتين أو تتوقعهما. لم تكن تؤمن بأن في لبنان مجتمعاً مدنياً يمكنه أن يحدث فرقاً بموازاة تصاعد تبرّم الطبقة السياسية والتركيبة الاجتماعية اللبنانية من سطوة النظام الحاكم في دمشق وضغطه على المعادلة الداخلية الشديدة الحساسية. وتماماً مثلما تفاجأت الدول الغربية باندلاع الربيع العربي في نهاية عام 2010، لم تكن تتوقع أن يفلت الشعب السوري من قبضة النظام الحديدية وينزل الى الشارع. فهذه الدول مثلها مثل النظام نفسه لم تُعِر أهمية لانكسار حاجز الخوف عند الشعوب العربية منذ أن نزل الشعب التونسي يطالب برحيل نظام زين العابدين بن علي، ثم الشعب المصري برحيل حسني مبارك، وهو ما أصاب الشعب السوري بالعدوى، في مواجهة نظام كان، وكانت هي معه، تعتقد بأنه قادر على إخماد أي تحرك مضاد.
منذ بدايتهما شهدت الانتفاضتان اللبنانية والسورية تحركاً مضاداً لإجهاضهما من قوى دولية وإقليمية. وأدرك نظام بشار الأسد ومعه إيران أن إخراجه من لبنان يزعزع وجوده في دمشق فشن مع حلفائه في الداخل وفي الإقليم هجوماً مضاداً على نتائج ثورة الأرز ومفاعيلها، بالاغتيالات والتفجيرات والحديد والنار، لم تتوقف حتى الآن، ولن تتوقف في المنظور القريب، طالما استمر حكم الأسد في بلاد الشام. فهل يمكن تصور غير ذلك، طالما أنه يرتكب أبشع المجازر ويمارس أفظع أساليب القتل تجاه الشعب السوري، تسانده في ذلك إيران و «حزب الله»؟
وإذ أثبتت دماء السوريين وصلابتهم في مقاومة آلة القتل مقولة الزميل الشهيد سمير قصير عن أن ربيع لبنان لن يكتمل إلا بربيع سورية، فإن الإصرار نفسه الذي دفع إيران الى نجدة نظام الأسد بعد 14 آذار 2005، للحؤول دون إضعاف حضورها في المشرق العربي، هو نفسه مضاعفاً، حملها على الانغماس المباشر في القتال الى جانبه بعد 15 آذار 2011، استناداً الى مقولة «إذا خسرنا سورية نخسر طهران». والهجوم المضاد على الانتفاضة اللبنانية من 7 أيار (مايو) 2008 وغيره من الأحداث امتد الى سورية، مع فارق الحجم والأهمية والأضرار بين البلد الصغير والدولة المحورية، التي تتأثر المنطقة برمتها بما ستؤول إليه المعادلة الجديدة فيها.
قد تحجب ضخامة الحدث السوري وتشعباته الدولية والإقليمية الكثير من الوقائع ومظاهر العلاقة بين 14 آذار و15 آذار. ولعلّ الموقف الروسي المتشدد بدعم نظام دمشق وخوف الكرملين من انتصار الإسلاميين في سورية ومن تأثيره في المسلمين في روسيا هو أحد العوامل التي جعلت من الأزمة السورية مسرحاً لصراع دولي يفوق بانعكاساته أهمية الصراع الذي حصل على لبنان منذ 2005.
لكن في الحالين، السورية واللبنانية، يمكن القول إن ما تحكم بالموقف الغربي والأميركي، وما زال، هو البراغماتية والتجريبية والتردد. إصرار جمهور قوى 14 آذار بين كبوة وانتعاش، على الصمود والنهوض على رغم الضربات، دفع بهذه «التجريبية» الى تغيير موقف واشنطن وأوروبا مرات عدة. ألم تنفتح هذه الدول على نظام الأسد عامي 2008 و2009 فمارست معه سياسة «الانخراط» بالحوار لتعدل موقفها منه بعد فشل تجربة س. س.؟
أليس صمود الثوار الملحمي في سورية هو الذي يدفع بـ «التجريبية» الأميركية الى خوض الحوار مع إيران، بموازاة تلزيم موسكو السعي الى الحل السياسي والحوار، وغض النظر عن اتجاه بريطانيا وفرنسا الى تسليح المعارضة؟
فمثلما تعني التجريبية الغربية تجنب التدخلات العسكرية بعد تجربة العراق وفي ظل التأزم الاقتصادي، فإنها تعني أيضاً أن ميزان القوى على الأرض السورية يلعب دوراً في تعديل توجهات هذه الدول.
وليد شقير/التجريبية الغربية بين الانتفاضتين
19
المقالة السابقة