القصّة الكاملة لأغنية حبّ فلسطينية بين نجاة ومحمود درويش

عروبة الإخباري –

في التاسع من شباط 1971، وصل إلى القاهرة قادما من العاصمة السوفييتية موسكو الشاعر الفلسطيني، محمود درويش، (1941 – 2008) في أول رحلة له لمدينة عربية خارج حدود فلسطين المحتلة، تطارده انتقادات مجموعة من الفلسطينيين بل وأعضاء الحزب الشيوعي الإسرائيلي “راكاح”، الذي كان عضواً فيه، معتبرين أنه باع القضية وأعطى ظهره للنضال الفلسطيني، ما دعا الحزب إلى اتخاذ قرار مفاجئ بفصله من عضويته، فيما كان المصريون يستقبلون ابن الثلاثين ربيعاً استقبال الأبطال في حالة احتفاء نادر، تجاوزت حدود التعامل معه كشاعر إلى النظر إليه كمناضل فلسطيني في وقت كانت تعيش فيه القضية الفلسطينية مرحلة بالغة الصعوبة في أعقاب هزيمة حزيران 1967 حتى أنه لم تكن هناك صحيفة مصرية تخلو في ذلك الوقت من حوار مع الشاعر الشاب أو تجمع ثقافي إلا وكان مدعوا إليه، وإزاء هذه الازدواجية الفلسطينية المصرية في التعامل مع درويش، قرر الرجل عقد مؤتمر صحافي بعد يومين فقط من وصوله إلى مصر، استضافه مبنى الإذاعة والتلفزيون المصري تحت إشراف وزير الإعلام آنذاك محمد فايق وبحضور مجموعة من المثقفين المصريين على رأسهم الصحافي أحمد بهاء الدين والناقد رجاء النقاش بإيعاز مباشر من الرئيس أنور السادات.

في المؤتمر المذكور قال درويش من ضمن ما قال في رده على منتقديه قولته المشهورة: “لقد غيرت موقعي ولم أغير موقفي، وانتقلت من مرحلة الحصار إلى مرحلة العمل”، فيما طالب المصريين بعدم النظر إليه كأسطورة أو كبطل، وهو المعنى ذاته الذي ألح عليه في أول مقال له في مجلة “المصور” تحت عنوان “هل تسمحون لي بالزواج” الذي نشر في التاسع من نيسان 1971 التي كان يرأس تحريرها أحمد بهاء الدين وليس رجاء النقاش حسب ما جاء في كثير من المصادر، وربما كان هذا الخطأ الشائع ناتجاً عن خصوصية العلاقة التي جمعت بين درويش والنقاش باعتباره أول من قدم درويش إلى القارئ العربي من خلال كتابه المهم الصادر عن دار الهلال “محمود درويش شاعر الأرض المحتلة”.

المهم أنه قبل نشر هذا المقال بعشرين يوماً، وبالتحديد في التاسع من آذار 1971 نشرت “المصور” ما اعتبرته أول قصيدة يكتبها درويش في مصر تحت عنوان “أغنية حبّ فلسطينية” وقدمت لها في بضعة أسطر جاء فيها: “هذه أول قصيدة كتبها شاعر المقاومة الفلسطينية محمود درويش منذ وصوله إلى القاهرة.. أعطاها للمصور.. وقد بدأ الأستاذ محمد عبد الوهاب في تلحين هذه القصيدة كي تغنيها نجاة لأول مرة في الحفلة التي تقام لصالح المقاومة الفلسطينية”. ومن واقع اقترابي من رجاء النقاش في سنواته الخمس عشرة التي سبقت رحيله العام 2008، وقيامي بمراجعة كتبه الأخيرة، أستطيع القول إن هذه السطور التي قدمت للقصيدة كتبها النقاش بنفسه باعتباره المحرر الأدبي لمجلة “المصور” ورئيسا لتحرير مجلة الهلال في ذلك الوقت، وبعدها بأسابيع نشرت المصور خبراً مفاده أن جلسة جمعت بين عبد الوهاب ونجاة ودرويش لإنجاز ظهور القصيدة للنور، الأمر الذي لم يحدث ولم تقم نجاة بغناء القصيدة، وقد سألت النقاش في منتصف التسعينيات عن تلك الأغنية التي وصفتها ساعتها بالمزعومة ولماذا اسم نجاة بالذات الذي ارتبط بنشر القصيدة؟ فأجابني لأن درويش ونجاة كانا في ذلك الوقت يعيشان إرهاصات قصة حبّ لم تكتمل، وأن تلك القصيدة كانت أحد مظاهر التقارب بين الطرفين، وأن الكثيرين من المنتسبين إلى الوسط الثقافي في مصر كانوا يستشعرون تلك المشاعر الناشئة بين الفنانة والشاعر… فلماذا إذن لم تكتمل قصة الحب ولم تظهر الأغنية؟ هكذا سألته، فأجابني: لم تكتمل لأن هذه هي نجاة متقلّبة المشاعر، وأن درويش لم يقاتل لاستمرار تلك العلاقة بمجرد تحوّل نجاة عنه، فلما لمْ تكتمل قصة الحبّ، توقفتْ أيضا “أغنية الحب الفلسطينية ” التي كتبها درويش.
 وقصة علاقة الشاعر بالمطربة تناولتها مقالات كثيرة من الكتاب، أبرزهم شربل داغر، سميح القاسم، عبد الباري عطوان، أحمد الشهاوي، وسعيد الشحات، لكنني لاحظت أنهم جميعاً ينقلون عن بعضهم أو يكررون المعلومات ذاتها عن قصة باقات الورد التي كانت ترسلها نجاة لدرويش مشفوعة بتوقيع “نونا”، وقت إقامته في فندق شبرد على نيل القاهرة في بداية وجوده بمصر، واللقاء الذي وصفه درويش نفسه بالوحيد الذي جمع بينهما وأفصحت له نجاة خلاله عن شخصيتها الحقيقية فيما أكدت الصحافية، صافيناز كاظم، التي كانت ملازمة لدرويش في ذلك الوقت، أن لقاء آخر جمع بين الاثنين فضلا عن الخبر الذي أشار إلى الجلسة التي ضمت عبد الوهاب ودرويش للتجهيز لتقديم “أغنية حبّ فلسطينية” ولأن كل أبطال المشهد رحلوا إلا نجاة التي تلوذ بالصمت “الرهيب” منذ سنوات، توجهت بالسؤال للروائي، يوسف القعيد، ليس فقط باعتباره عاش تلك الفترة، وإنما لأنه كان أيضا صديقاً مقرّباً من الأديب، نجيب محفوظ، الذي زامل محمود درويش بضعة أشهر عندما انتقل من دار الهلال للعمل في الأهرام، فأجابني القعيد بأن محفوظ حدثه بأن الشاعر الراحل كان من الممكن أن يكون من كبار شلة الحرافيش لو استمر بقاؤه في مصر أكثر من ذلك، وأنه كان يحضر جلسات الحرافيش في منزل الكاتب محمد عفيفي في منطقة الهرم، وأن محفوظ سأل درويش ذات مرة عن حقيقة علاقته بنجاة فأجابه الثاني بأنها كانت أكبر من مجرد مشاعر عابرة على الأقل من جانبه، وأنه كان يتمنى أن يحمل صوت نجاة أشعاره، هذا الصوت الذي عشقه عن بعد قبل مجيئه إلى مصر، ويضيف القعيد أنه سأل درويش ذات مرة عن هذه القصيدة التي لم تظهر إلى النور بصوت نجاة، فشاهد لمعة غريبة في عينيه ولم يزد عن القول بأنها كانت مجرد حلم جميل.
 المدهش أنّ صحيفة الأهرام نشرت في الثامن عشر من نيسان 1971 خبراً عن مشروع فيلم يعكف محمود درويش على كتابته عن القضية الفلسطينية وكتابة أغنياته، تتولى بطولته سعاد حسني، على أن يقوم مخرج “المومياء” شادي عبد السلام بإخراجه، وبطبيعة الحال كان مصير الفيلم هو ذاته مصير الأغنية، لكنني أذكر أنّ الناقد السينمائي، سمير فريد، كتب مقالا العام 2008 في رثاء محمود درويش في صحيفة “المصري اليوم”، حكى فيه قصة اللقاء الذي رتبه أثناء انعقاد المهرجان القومي للسينما المصرية الأول وجمع بين سعاد حسني ودرويش في حضور الكاتب سعد الدين وهبه، وأن سعاد داعبته بالقول بأن وجهه يصلح للعمل في السينما، وبعد هذا المقال سألت سمير فريد عن حقيقة وجود فيلم من كتابة درويش كانت تنوي السندريللا القيام ببطولته، فقال إنها كانت مجرد فكرة من جانب سعاد رحب بها درويش على سبيل المجاملة، فيما علق سعد الدين وهبه ضاحكا: “ساعتها سوف تكون يا محمود قد جمعت بين الحسنيين”، يقصد بالطبع الشقيقتين نجاة وسعاد ابنتي الخطاط محمد حسني البابا.

 

شاهد أيضاً

امل الرندي: تقدم تجربتها المتميزة بادب الطفل في مهرجان الشارقة القرائي للطفل 2024

عروبة الإخباري  – قدمت الكاتبة الكويتية أمل  الرندي تجربتها المتميزة بادب الاطفال خلال مشاركتها  في …