الحلقة الثامنة من كتاب “سلطنة وسلطان”.. شخصية السلطان والشخصية العمانية كلاهما تأثر بالآخر

عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب

بمناسبة رحيل السلطان قابوس بن سعيد رحمه الله ، فإن موقع “عروبة الإخباري”  ينشر سلسلة حلقات عن حياة الراحل ومسيرته الغنية في بناء الدولة العُمانية، والتي استمرت لنصف قرن استطاع فيها أن يضع عُمان على خارطة العالم المتفاعل، وأن يقدمها كنموذج للسلام والتعاون والشراكة في منطقتها ومحيطها العربي وبعدها العالمي.

لقد كان السلطان قائدا عظيما، التف حول جنازته ومشى خلفها قادة من كل دول العالم وبعضهم لم يلتق مع صديقه أو خصمه إلا في جنازة هذا القائد الذي ظلت سياسته تقبل القسمة على الجميع، ويرى فيه الجميع رجل محبة وسلام وعطاء.

الحلقة الثامنة ..شخصية السلطان والشخصية العمانية كلاهما تأثر بالآخر

عرفت الشخصية العمانية على مر التاريخ بالتسامح والطيبة، وإذا كان الأفراد يشكلون أخلاقهم العامة من مجتمعهم فإن المجتمع العماني بصيغته الحالية الوارثة لتاريخ مجيد وحضارة مشهودة لها قد أعطى العمانيين كثيراً من وعيهم على واقعهم ومحيطهم، وشكل الكثير من سلوكياتهم وأساليب تعاملهم . ذلك التاريخ الذي حمل عبق الاسلام واعتدال دعوته كما حمل حضارة مجاهدة ومكافحة وبانية اتقنت التجارة وكانت رائدة فيها .

في العقل الجمعي لغير العمانيين أن العمانيين يتميزون عن سواهم حتى من أهل الخليج، وان لهم صفات تمكنهم أن يميّزوا بها وهي الصدق والوضوح والبساطة والصراحة والإخلاص في العمل، والاعتدال وعدم التطرف بل والتحصن من التطرف، لقد أثرت في هذه الشخصية عوامل عدة منها تاريخية إذ انتسبت الشخصية العمانية في الماضي الى أمجاد الامبراطورية العمانية، وتحملت مسؤوليات الدفاع عن وطنها وترابها في مواجهة تحديات كبيرة جاءت من البر واخرى من البحر الذي ظل يشكل التحدي الأكبر، سواء من المحيط الهندي أو بحر العرب والخليج، وحيث مضيق هرمز أيضاً، وهناك تحدي الجغرافيا الكامن في واجهات بحرية واسعة وصحراء ممتدة عازلة وجبال وعرة ومرتفعة وجدباء شكلت قسوة تحتاج إلى تكيف وإرادة وإصرار لمواصلة العيش فيها .

تأثرت الشخصية العمانية بالإسلام الذي أنصفها حين انتصرت له، فكانت أول من آمن وصدق وانتمى واختارت الوسطية حين اختارت الأغلبية ” الإباضية ” بنقائها واعتدالها ورؤيتها الواسعة وصفاء سريرتها، وحرصها وايمانها بالبشرية والاخاء والتسامح والتعاون والاعتراف بالاخر والتعامل معه ..

فكان هذا المزيج المميز للشخصية العمانية ماضياً وحاضراً وقدرتها على التماسك والاجماع وقبول الرأي الصائب وموالات الإمام وإطاعته والاقتراب منه واحترامه وهو الذي لا يمّز نفسه عن اتباعه ولا يجعل بينهم وبينه حجاباً ..

ركبت الشخصية العمانية البحر وبنت موانىء عليه منذ فجر التاريخ وأسست على شوطئه المدن وقد سبق العمانيون الفنيقيين في ركوب البحر وبناء السفن والمدن فقد بينت صور العمانية قبل صور اللبنانية ويقال ، إن بناة صور العمانية هم الذين ارتحلو لبناء صور اللبنانية وان الفنيقيين الذين اخترعوا الحرف وعرفوا التجارة وعرفوها للعالم جاءوا من سواحل عمان.

 كما أن الشخصية العمانية التي عرفت امتزاج الصحراء بالبحر وعايشت الجبال القاسية السوداء والوعرة عرفت كيف تحافظ على حياتها ازاء الطبيعة وعلى عقائدها ازاء الخلط والبدع التغيير، فكان للعمانيين هذه الشخصية التي عرفناها في رموزهم الثقافية والدينية والسياسية والحربية ولعل أبرز شخصية عمانية يمكن القياس لها وعليها هي شخصية السلطان قابوس بن سعيد التي نقرأها في هذا الكتاب من خلال النطق السلطاني السامي في خطابات السلطان ، ومقابلاته وسلوكه إزاء شعبه وجولاته في الجغرافيا العمانية بانتظام واستمرار، وأيضاً من خلال ما تنجزه السلطنة بتوجيهه من وساطات وسعي بالخير بين الشعوب والأمم والدول وبين ذوي القربى والجار وحتى في البعد الإنساني الذي ينتسب إليه العمانيون بفخر لأنهم يرون جذورهم الممتدة فيه .

الشخصية العمانية ليست مفرطة في الإنفاق ولا متباهية في الاستهلاك كما أنها ليست شخصية تابعة تدرك الحق وتلتزم به ، وتراه ضالتها حيثما وجدته تبعته ولعل تمتعها بتوافر مرجعياتها الدينية في المشايخ الحفظة الورعاء المطلعين ، أو مرجعياتها في شيوخها ممن اختارتهم القبائل ليقودوا أو يمثلوا إدراكاً من ” أنه لا يصلح الناس فوضى  لا سراة لهم ” لعل توافر ذلك حتى قامت الدولة العادلة العمانية على أنقاض مرحلة الظلام والجور قبل العام 1970 ، وقد انطلقت النهضة العمانية لعلّ وراء ذلك كان سطوع صفات الشخصية العمانية وميلها إلى الكرم والتضحية واعتزازها بهويتها الوطنية والعربية المسلمة ..

لم يهادن العمانيون المعتدي ايّا كان دينه أو جنسيته أو قدومه أو حتى قوته، فقد صادموا الفرس والانجليز والبرتغاليين والفرنسيين وردّوا الدعوات الايديولوجية الغربية وغير الاصيلة، ودافعوا عن وطنهم بكل ما يملكون فكانت الحاجة أم الاختراع لديهم حين امتلكوا اكبر الاساطيل البحرية قبل عدة قرون وحين ركبوا البحر وأقاموا امبراطوريتهم ورفعوا عليها علم الاسلام وبشروا بدعوته في شرق افريقيا وسمّوا عاصمتهم فيها دار السلام ، وحين أغاثوا الملهوف ولبّوا نداء المستغيث فكانت الغزوة العمانية الشهيرة لانقاذ البصرة وأهلها حين استجاروا بالعمانيين من الفرس وهبو النجدة البصرة وإنقاذ أهلها وقد وقفوا إلى جانب العثمانيين ضد الفرس فقد كانت تحت الحكم العثماني، ولما لم تستطيع قبائل البصرة العربية الدفاع عنها استنجدوا بسلطان عمان الشهير آنذاك احمد بن سعيد ارسل كريم خان مؤسس السلالة الزندية جيشاً لحصار البصرة تمهيداً لاحتلالها .. العام 1188 هـ ..

وإلى بغداد مصطفى باشا لا يستطيع مساعدة حامية البصرة بسبب الصراع حول بغداد وفتك الطاعون بأهل بغداد، استعان البصريون باكبر قوة مستقلة عمان .. لأن النداء وصل اسطوله المكون من 80 سفينة وفي المقدمة سفينة لقيادة الرحماني وفتح ثغرة واستعرت مع الجيش البصريين والعمانيين فشل جيش كريم خان في تحركاته فانسحب للدفاع عن عمان ..

الباب العالي في اسطنبول صرف من خزينة البصرة استطاع العثمانيون استعادة البصرة بعد ذلك بسنتين ..

لقد أسهم العمانيون في نشر الإسلام ومنهم خرج المهلب بن أبي صفرة الأزدي، كما نشروا التجارة وعلموها للناس وقد اكسبتهم التسامح والحوار والصبر سواء حين كانوا يصيدون اللؤلؤ أو يبنون السفن أو يسوقون اللبان للعالم القديم كله ويبدلون السلع ويحافظون عليها ويعالجون تلفها .

هذه الشخصية العمانية جاءت بقيادة السلطان قابوس لتأخذ بيدها وتعيد فجرها بعد غياب شمس الدولة العمانية القديمة، وقد أعاد  السلطان من خلال ما أسس له من تغيير الشخصية العمانية من تعزيز روح التسامح والحوار ، ونبذ العنف والتعصب والتطرف بكل أشكاله مهما كان مصدره، وقد كان سهلاً أن يتواصل صقل الشخصية مع معطيات النهضة العمانية وأن تقوم هذه الشخصية ببناء عمان الجديدة وإقامة جسور من التعاون والمودة مع الجوار في مختلف اتجاهاته ، فكان الغنى الثقافي والفكري إسناداً لهذه الشخصية التي امتد تأثيرها، فقبلت الآخر وتعاملت معه وقد جاء في النظام الاساسي للدولة عن الحريات الشخصية وضمن ممارساتها ما يتطابق مع الشخصية العمانية ويحرص على التزامها بذلك ” أن حرية القيام بالشعائر الدينية طبقاً للعادات المرعبة مصونة على ألاّ يخل ذلك بالنظام العام أو ينافي الآداب “..

ومن هذا المنطلق وتأسيساً على طبيعة الشخصية العمانية، فقد كفل قانون الأحوال الشخصية العماني لغير المسلمين من المقيمين على أرض السلطنة ، حق تطبيق الأحكام الخاصة بهم بما لا يتنافى مع التقاليد العمانية . وقد رأينا تطبيقاً لذلك أنه تتوافر في سلطنة عمان دور العبادة الخاصة بالديانات الأخرى تسييراً على غير المسلمين لإقامة شعائرهم بحرية واطمئنان وفي حماية القانون ..

وخدمة لهذه الشخصية وانطلاقاً من جذورها التاريخية قامت السلطنة بجهود ملموسة في تعميق مفهوم التعايش والتسامح الذي يفتقره عالمنا الحديث في كثير من إسكانه وأجزائه،  والذي هو بحاجة ماسة له الأن أكثر من أي وقت مضى، وبالتالي بالحاجة إلى النموذج العماني الذي تقدمه شخصية السلطان ونهجه وسياسة بلاده الخارجية وهي تدعو ليس للمصالحة بين الدول في المنطقة والإقليم على المستوى السياسي والدبلوماسي وإنما أيضاً الدعوة على المستوى المذاهبي في إجراء الحوارات وتأصيل الأفكار والتبادل الثقافي وفي مد الجسور، وإغلاق الفجوات وفي دعم كل ما يعزز الأمن والاستقرار وبناء الأرضية الإنسانية المشتركة .

إن جهود سلطنة عمان في حماية مواطنيها من التطرف الذي تحاربه السلطنة بوسائل مختلفة، وفي هذا دور أصيل نابع من الثقافة العمانية ومن المعتقدات العمانية الدينية والتاريخية تشهد به أطراف عديدة، رأت أن في ما أنجزته السلطنة وفيما تدعو إليه أو تقوم به هو النموذج، ففي التقرير السنوي للحريات الدينية في العالم العام 2012 الذي أصدرته الخارجية الأميركية ، تتقدم عمان على سواها من دول العالم في مجال مكافحة الإرهاب ونبذه والنفور منه وعدم استساغة أشكاله أيا كانت مستوياتها ، وبين التقرير أن سلطنة عمان تمارس رسالة إسلام معتدل ومتسامح وهو ما تدل عليه حرية المعتقد الذي يتمتع به أبناء الطوائف الدينية المختلفة في السلطنة حيث يمارسون شعائرهم الدينية والمذهبية دون تضيق “.. وكشف التقرير أن السلطنة بعيدة عن الدول التي تتساهل إزاء انتهاكات الحريات الدينية حيث تمارس الأقليات معتقداتها بحرية “..

فلا يوجد حظر ارتداء لباس ديني أو اجبار عليه أو منع الرموز الخاصة بالأقليات، وهو ما يصبّ في إطار من التسامح وقبول الاخر وبناء صيغة انسانية عالمية ، وفي هذا صبت توجيهات السلطان في كلمته التي القاها في 31/10/2011 في افتتاح الدورة الخامسة لمجلس عمان ( إن الفكر متى كان متعدداً ومنفتحاً لا يشعر به التعصب كان أقدر على أن يكون الأرضية الصحيحة والسلمية لبناء الأجيال ورقي الأوطان وتقدم المجتمعات ..

وفي هذا السياق تنهض وزارة الاوقاف والشؤون الدينية لتأكيد هذا النهج بتوضيح مبادىء الاسلام المعتدل، واقامة الحوارات بين المذاهب وتقريب المرجعيات الفقهية، وتأتي ندوة تطور العلوم الفقهية التي عقدت مؤتمر الثالث عشر العام 2014 وبانتظام وبشكل دوري لتخدم هذا النهج بفتح المجال لحوار المذاهب الإسلامية كافة، والتقريب بينها في موازاة حوار الأديان السماوية الثلاث الذي شاركت فيه عمان ودعت اليه،  وهذه الجهود الكبيرة والجادة تعكسها مجلة ”  تفاهم ” التي تصدرها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية والتى تحظى باحترام واسع وتقدير .

وتقوم سلطنة عمان بالتصدي للصورة النمطية السلبية للإسلام والتي تقدمها مجموعات مارقة أو جهات معادية لصورة الإسلام،  وتعقد السلطنة المعارض بانتظام تحت شعارات التسامح الديني وقد انطلقت في أبريل العام 2011 وتوسع نطاقها الآن وحملت اسم “رسالة الإسلام” وهو جهد يوازي ما تقوم به المملكة الأردنية الهاشمية في ” رسالة عمان ” وفي دعوتها للحوار بين المذاهب، حيث انعقد المؤتمر الأول في عمان في تموز العام 2005 م والجهد الذي تقوم به السلطنة يتدرج محاور التسامح الديني والتفاهم المشترك والتعايش السلمي، وقد شمل المعرض العماني في خدمة هذه الأهداف (16) دولة في مختلف القارات وتجسيداً لنداء الأمم المتحدة بتخصيص الاسبوع الاول من شباط من كل عام للوئام بين الاديان نظم مركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم في فبراير العام 2013 أسبوع الوئام الانساني الذي يهدف الى خدمة التفاهم والوئام الديني والحضاري ..

كما أن السلطان قابوس وخدمة لهذه الأهداف وأهداف التسامح الإنساني بشكل عام وخدمة للاستقرار والسلام الدولي وتقريب الشعوب وقبول الآخر، أنشأ مجموعة ( كراسي السلطان قابوس العلمية ) في العديد من جامعات العالم الشهيرة المتعددة لتقديم الحضارة الاسلامية وتعميق الحوار بين الأديان وتوسيع الفهم المتبادل وتحقيق التواصل مع المجتمعات .

كما أن هناك العديد من المراكز والمؤسسات الثقافية التي اقامتها السلطنة بتوجيه من السلطان قابوس في مناطق عدة من العالم لتحقيق المزيد من التقارب بين الشعوب والثقافات وهذه الكراسي السلطانية توزعت على مختلف المواضيع والتخصصات من علوم ولغات وفنون واديان، فمن كرسي السلطان قابوس لدراسات اللغة العربية في بكين والذي انشىء العام 2009 الى كرسيه للدراسات الاسلامية في جامعة جورج تاون العام 2009 أيضاً وآخر في مجال الاستزراع الصحراوي في جامعة الخليج العربي، وأيضاً أنشأ في جامعة هارفرد كرسيا في العلاقات الدولية وكرسياً في جامعة ليد للهندسة في مجال تقنية المعلومات وواحداً آخر في جامعة مليورن باستراليا للدراسات العربية والإسلامية ، وفي جامعة أكسفورد للآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية .. وفي جامعة كامبردج للدراسات العربية المعاصرة .. وفي أكاديمية روزفلت للإدارة الكمية للمياه وفي جامعة طوكيو العام 2010 للدراسات الشرق أوسطية وفي لايدن 2010 للدراسات الشرقية وفي كلية وليام وماري 2012 للدراسات الشرق أوسطية وفي جامعة آل البيت 2012 في الأردن وفي جامعة جورج تاون للغة العربية وفي جامعة كمبردج أيضاً للديانات الابراهيمية وكان ذلك العام 2012 .

ولم تتوقف الجهود في هذا الإطار بل إن السلطان قابوس في مسيرته في قيادة بلده وفي دعمه للمشاريع الإنسانية على المستويات الوطنية والاقليمية والدولية تلقى العديد من الجوائز والأوسمة والشهادات الفخرية، وخصص بدوره العديد من الجوائز السلطانية التي تحمل اسمه أورعايته لمواقع ومؤسسات وإبداعات عديدة في السلطنة وخارجها، وفي هذه المجالات فقد نال السلطان جائزة السلام الدولية وجائزة جواهر لآل نهرو للتفاهم الدولي وجائزة من الجمعية الدولية الروسية ، وقد خصص الجوائز التالية .. جائزة السلطان قابوس للعمل التطوعي .. وجائزة للإجادة في الخدمات الحكومية الالكترونية وجائزة لحماية البيئة .

من كتاب سلطنة وسلطان .. أمة وقائد السلطان قابوس بن سعيد / المؤلف سلطان الحطاب

يتبع الحلقة التاسعة..

شاهد أيضاً

الملك وأمير الكويت يؤكدان اعتزازهما بمستوى العلاقات بين البلدين

عروبة الإخباري – أكد جلالة الملك عبدالله الثاني والشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح، أمير دولة …