قالت العرب فيمن استحكم فيه الجهل وأصر على إنكاره، إن «فلانا لا يعرف بوعه من كوعه». وللعارفين الفارق بينهما من عشاق أفلام الأبيض والأسود، نذكر تلك القطعة من القماش الأسود عادة التي تغطي كمّيْ قميص الموظف العامل في المكاتب مما بعد الرسغ «البوع» إلى ما يليه مفصل «الكوع»، وذلك لتفادي اتساخ القميص الأبيض من حبر المذكرات والمراسلات الصادرة والواردة فيما بين مكاتب الإدارة -من القطاعين الخاص والعام- وخارج «مِلاكِها» القانوني والإداري.
صورة أخرى تخطر بالبال تتعلق بمسؤولي الأرشيف وهم كفاءة يعتدّ بها لمن أراد استناد منتجه الإعلامي لقاعدة وازنة من المعلومات الموثقة بالصوت والصورة والحرف والرقم. إضافة لتلك الأكمام الواصلة بين البوع والكوع، كانت تلك «المَحْرَمة» الورقية أو المنديل القماشي الذي يرفعها الموظف المؤتمن على ذاكرتنا الوطنية وحصاد تواصلنا الإعلامي مع العالم بأسره عبر الأقمار الصناعية في البقعة في محافظة البلقاء، يرفعها بين منكبيه إلى ما بين الرقبة والياقة حتى يحافظ على كامل هندامه، ولم يكن أيامنا -أيام مؤسستنا الأم الإذاعة والتلفزيون الأردني- ليلتقي بالجمهور العام، ولا بمسؤول كبير بزيارة تفقدية مبرمجة أو مفاجئة من أحد خارج حمى «المؤسسة»، اللهم سوى معدي ومنتجي الأخبار والبرامج التي صارت فيما بعد متخصصة من حيث القدرة على إنتاج وثائقيات أو أفلام تسجيلية وثائقية بإمكانات ذاتية، دون الحاجة إلى استيراد وثائقيات يقتصر دورنا المحلي فيها على الدبلجة أو الترجمة في كثير من الحالات.
ومما هو مأسوف منه وعليه، أن بعض أفلام «الأبيض والأسود» تعاملت مع الأرشيف وكأنها ركنا مظلما منسيا، لا بل وأمعنت صناعة السينما في عقدي الخمسينيات والستينيات، في انعدام القدرة على إدراك أهمية الأرشفة كحرفة وأمانة ورسالة، فكرست بعضها صورا نمطية مسيئة للعمل لدى قسم الأرشيف، وكأنه قسم من لا عمل له، أو من يتم إبعاده التعسفي أو نقله الإداري كتخلص من حمولة زائدة أو عقوبة إدارية.
بعض الأساتذة الذين عرفتهم عن قرب كان لديه من الذاكرة الفوتوغرافية الخارقة ما يمكّنه من توفير لقطة أو عبارة واردة في تصريح فعل أو تعليق على ردة فعل من الحصاد المحلي أو الخارجي مما رصدته وسائل الإعلام. صحيح أن الأتمتة والرقمنة قد اختصرت الزمن والجهد والكلف، لكن العقل البشري المعزز بالعاطفة والوجدان غير قابل للاستبدال ولا للاستغناء.
رحم الله الكبار وبارك في عمر من علمونا أن كثيرا من المهن لا يمكن إتقانها بالدراسة الأكاديمية فقط حتى ولو نال أحدهم مرتبة الأستاذية التي تعلو الدكتوراة، المنجم الحقيقي هو الأرشيف والمكتبة حيث يتم زرع أهم القيم وأسماها ألا وهي الصبر والأناة في البحث عن المعلومة والموضوعية والاتّضاع في الحرص على أن يدرك الإنسان أهم ميزاته عن سواه من الخلق والموجودات وهو أنه ذلك المخلوق «العارف بجهله».. وددت لو استمرت السنّة الحميدة في أن يمضي الموظف الجديد فترة ولو تأسيسية انتقالية في قسم الأرشيف في وزارته أو شركته التي من حقه أن يحلم ويخطط ويعمل أن يكون يوما ما قائدا لها.
فوائد جمة تتحقق بذلك لعل من أهمها أن القادم الجديد، عليه أن يتعلم ممن وما سبق فنتفادى تكرار الأخطاء وتبديد الطاقة على إعادة اكتشاف أو تجريب المُجرّب! ولعله بذلك يُحدث فارقا في خلال سنوات خدمته، يذكره العاملون من بعده بخير، استنادا إلى أرشيفه.
من الآخر، قسمان فيهما صلاح وفلاح المؤسسات -عامة كانت أم خاصة- الأرشيف (ذاكرة الإنسان والمكان)، وشؤون الموظفين (العاملين)، أو الأصح شؤون إدارة الموارد البشرية..
الأرشفة من البوع إلى الكوع!* بشار جرار
3
المقالة السابقة
