عروبة الإخباري –
اجعله ينسى لغته، وسينسى هويته
أولى مراحل التأثير في الشعوب وتغييرها وإفقادها هويتها، تتجلى في اللغة، لن تجد شعبا متمسكا بلغته وتمكنت منه أي خطط ممنهجة لتفكيكه وزعزعته. لكن الغريب اليوم أن اللغة العربية، واللهجات العربية في أغلبها، تعاني من محاولات اختراق إن صح التعبير، والأغرب أن من يروج لها فنانون، إنهم نجوم عرب، لا يعرفهم سوى جمهور الفن العربي، يخاطبون عربا مثلهم ورغم ذلك أصبح كل حديثهم إنجليزيّا، يعمقون به الفوارق الاجتماعية ويزرعون في عقول الناشئة أنك لتكون من طبقة اجتماعية “شيك وكلاس” عليك أن تتكلم مثلنا، ويصبح كل كلامك إنجليزيّا ما عدا كلمات عربية نادرة.
ألا يسأل هؤلاء أنفسهم، لِمَ يطلب منا أن نخاطب جمهورا عربيا بغير لغته؟ ألا ينظرون إلى شعوب عربية مجاورة أوشكت على نسيان لغتها جراء استفحال الإنجليزية في كلامها، ألا يلاحظون كيف يفقد الطفل الذي لا يتعلم لهجة والديه جزءا كبيرا من هويته؟
خلال تفكيري في الموضوع، وضعت أمامي الصدفة في كتاب “صباح الخير أيها الوحش” قصة أحد الهنود الأصليين، وكيف سرقت منه روحه بمجرد أن سلبت منه لغته.
داني، كما لقبته الدكتورة كاثرين جلندر، كان رجلا كهلا ينحدر من شعب الكري، اجتث من بين والديه وهو طفل لم يبلغ بعد ست سنوات، ليترك مانيتوبا أقصى الشمال الكندي، ويجبر على العيش داخل مدرسة أشبه بمستوطنة، هناك ذاق أنواع العذاب النفسي والجسدي، الذي بلغ حد الاعتداء الجنسي المتكرر عليه من قبل أحد الكهنة.
أول ما قام به البيض ليلغوا حضور الشعوب الأصلية في كندا والولايات المتحدة، هو منع أطفالها من الحديث بلهجتهم الأم، كانوا يدركون جيدا أنهم لن يستطيعوا تغيير لغة الرجال والنساء، لكنهم يمكنهم تغيير المجتمع بتغريب أطفاله وإفقادهم الكثير من هويتهم، بدءا باللغة ووصولا إلى اللباس والسلوك والعادات والتقاليد.
فقد داني قدرته على التكلم باللغة الكرية، وفقد معها قدرته على التواصل مع والديه، ورغم أنه نفسيا كان طفلا قويا، لم يختر الانحراف السلوكي ولا إدمان الخمر كما فعل والداه وبقية من يعرفهم من شعبه الأصلي، لكن عقله اتخذ قرارا نفسيا خطيرا أيضا، لقد قرر الطفل أن يصمت، أن يسكت صوت مشاعره، وأن يلبس نفسه ثوبا غريبا عنه، لذلك عاش نحو ثلاثين عاما أو أكثر، لا يحركه شيء، لا يفرح ولا يحزن، لا يتكلم كثيرا، لا يرغب في التواصل مع أحد، لا يهزه أي حدث مهما كان مفاجئا، لقد سرقت لغته منه لكن روحه سرقت معها.
حاول داني أن يخضع للعلاج النفسي، كان مُتعِبا لمعالِجته، لكنه منحها فرصة مهمة لتتعرف على الاختلافات بين الشعوب، لتلمح ما يميز الشعوب الأصلية عن “الغزاة”، ولتساعد داني كي يحرر صوته وعواطفه، وكي يتصالح مع نفسه ومع الآخر، عبر استعادة لغته الأم واستعادة روحه الأصلية معها.
في زحمة هذا العالم الحديث، لا تزال صرخات الشعوب الأصلية تتردّد بصوت خافت في خلفية المشهد الإنساني. شعوبٌ كانت أول من سكن الأرض، لكنها أصبحت اليوم آخر من يُسمع صوته.
سُلبت أراضيها وعاشت تجربة تغريب قسري، فُرضت عليها لغة المستعمر وسلوكياته، حتى كادت تنسى من تكون حقًا.
لم يكن الاستعمار مجرّد سيطرة على الموارد، بل كان مشروعًا لإعادة تشكيل الإنسان ذاته. في مدارس التغريب كان الأطفال يُجبرون على نسيان لغتهم الأم، ويُعاقبون إن تحدثوا بها، وكأنها خطيئة. كانوا يُلقَّنون أن ثقافتهم بدائية، وأن خلاصهم لا يكون إلا بالتشبه بالآخر. هكذا، جرى انتزاع الهوية قطعةً قطعة، حتى غدت الأجيال الجديدة تائهة دون هوية. تأمل ما حدث لهم جيدا وانظر إلى حالنا اليوم ونحن نغرب أبناءنا بأيدينا.
