المملكة تمضي بثبات في مشاريع التحديث الشامل متمسكة بثوابتها الوطنية ودورها الإقليمي المتوازن
منذ تأسيس الإمارة ثم الدولة الأردنية الحديثة، ظلّ الخيار الديمقراطي ركناً ثابتاً في فلسفة الحكم، ومعبّراً عن رؤية هاشمية تؤمن بالمؤسسات الدستورية باعتبارها الضمانة الأعمق لاستقرار الدولة واستمرارها. فقد أدركت القيادة مبكراً أن بناء دولة القانون والمؤسسات لا يتحقق إلا بوجود برلمان فاعل يعبّر عن إرادة الشعب، وأن المشاركة السياسية هي السبيل الأنجع لتماسك الجبهة الداخلية وصون الهوية الوطنية الجامعة.
إن النص الدستوري الذي يحدد نظام الحكم في المملكة بأنه «نيابي ملكي وراثي» ليس مجرد تعريف شكلي، بل هو قاعدة تأسيسية كرّست على مدى عقود ممارسة سياسية قائمة على التوازن بين السلطات، وعلى احترام الإرادة الشعبية من خلال مؤسسة البرلمان. ومنذ اعتلاء جلالة الملك عبدالله الثاني العرش، جرى ترسيخ هذا النهج عبر التزام ملكي ثابت بإدامة الحياة النيابية، إذ لم تنقطع جلسات البرلمان إلا في فترات استثنائية اقتضتها المصلحة العليا، لتعود بعد ذلك بقوة إلى دورها الطبيعي في التشريع والرقابة والمساءلة.
ويشكّل افتتاح جلالته المتواصل لكل دورة برلمانية، دون انقطاع منذ عام 1999، دلالة رمزية وعملية على مركزية البرلمان في منظومة الحكم، وعلى قناعة راسخة بأن الديمقراطية الأردنية ليست حدثاً موسمياً، بل مساراً وطنياً متجذراً يتطور مع الزمن ويستجيب لمتغيراته دون أن يتخلى عن جوهره.
البرلمان الأردني ليس مجرد مؤسسة تشريعية، بل هو مكوّن أساسي من معادلة الاستقرار السياسي والاجتماعي. فوجوده المنتظم والمتواصل جعل من التجربة الديمقراطية الأردنية الأكثر استمرارية في المنطقة، وأتاح للدولة أن تدير تحوّلاتها وتواجه أزماتها ضمن أطر دستورية متماسكة. لقد أثبتت التجربة أن قوة الدولة في الأردن لم تكن يوماً رهناً بغياب الأزمات، بل بقدرتها على إدارتها ضمن مؤسساتها الشرعية، وفي مقدمتها البرلمان، الذي ظلّ حاضراً حتى في أحلك الظروف: أثناء حرب العراق عام 2003، وجائحة كورونا عام 2020، وعدوان غزة عام 2024، وهي جميعها محطات صعبة استمر فيها النهج الديمقراطي دون انقطاع، تأكيداً لرسوخ المبدأ لا ظرفيته.
تنعقد الدورة العادية الثانية لمجلس الأمة العشرين في ظرف وطني وإقليمي دقيق، يضع الأردن أمام معادلة شديدة الحساسية بين أولوية البناء الداخلي ومتطلبات الدور الإقليمي المتصاعد. فالمملكة التي تستعد لمرحلة نهوض اقتصادي وتنموي واسع، استناداً إلى مؤشرات نمو مشجعة وتحسن في بيئة الاستثمار والسياحة والصادرات، تجد نفسها في الوقت ذاته أمام تحديات محيطة معقدة تمتد من غزة والضفة الغربية إلى سوريا ولبنان.
هذه المعادلة الدقيقة تفرض على الدولة توازناً محسوباً في التعاطي مع الملفات الإقليمية، يحمي المصالح الوطنية ولا يعزل الأردن عن محيطه، ويُبقي بوصلة سياسته الخارجية ثابتة على مبادئها في الدفاع عن الحق الفلسطيني، ورفض سياسات فرض الأمر الواقع، وتأكيد مركزية الوصاية الهاشمية على المقدسات في القدس باعتبارها واجباً تاريخياً ودينياً لا يقبل المساومة.
في ضوء هذه المعطيات، يُتوقع أن يشكّل خطاب العرش السامي اليوم مرجعاً سياسياً يحدد أولويات المرحلة المقبلة داخلياً وخارجياً. فعلى الصعيد الوطني، سيعيد جلالة الملك التأكيد على مواصلة تنفيذ مسارات التحديث الثلاثة – السياسي والاقتصادي والإداري – باعتبارها الإطار العام لنهضة الدولة الحديثة، ومفتاح تجديد الثقة بين المواطن ومؤسساته.
وسيتناول الخطاب، على الأرجح، الجانب الاقتصادي بوصفه أولوية المرحلة، مع الإشارة إلى ما تحقق من مؤشرات إيجابية بفضل التزام الحكومة بترجمة «رؤية التحديث الاقتصادي»، وما تتطلبه المرحلة المقبلة من تعزيز الإنتاجية وتوسيع فرص التشغيل ودعم الطبقة الوسطى وتمكين الشباب.
أما في الشق الإداري، فسيكون التركيز على استكمال إصلاح الجهاز الحكومي ورفع كفاءته وتحسين الخدمات العامة ومكافحة البيروقراطية، بما يعيد الثقة بالقطاع العام كمحرك أساسي للتنمية المستدامة. وفي الجانب السياسي، ستُجدّد الدعوة إلى ترسيخ دور الأحزاب وتطوير التجربة البرلمانية لتكون أكثر فاعلية وتعبيراً عن الإرادة الشعبية.
على الصعيد الإقليمي والدولي، سيجدد خطاب جلالته الموقف الأردني الواضح في رفض محاولات تصفية القضية الفلسطينية، والتشديد على أن لا استقرار في المنطقة دون حلّ عادل وشامل يقوم على أساس الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية. كما سيُعيد الخطاب التذكير بالموقف الأردني الإنساني الثابت تجاه غزة، والدعوة إلى تثبيت وقف إطلاق النار ورفع الحصار وإعادة الإعمار ضمن إطار دولي يحفظ كرامة الفلسطينيين وحقوقهم.
لقد أثبتت التجربة الأردنية أن الديمقراطية ليست ترفاً سياسياً بل هي أداة للحفاظ على التوازن والاستقرار، وأن الدولة التي تملك مؤسسات قوية ودستوراً راسخاً قادرة على حماية نفسها من الارتباك والانقسام مهما كانت التحديات. فالأردن، بقيادته الهاشمية الرشيدة، استطاع أن يبقى واحة استقرار في محيط مضطرب، وأن يحافظ على نهجه الإصلاحي المتدرج والعميق، دون أن يسمح للظروف بأن تملي عليه مساراته أو تحيد به عن بوصلته الوطنية.
إن انعقاد الدورة البرلمانية الجديدة وما يرافقها من خطاب عرش سامٍ يمثلان محطة جديدة في مسيرة الدولة الأردنية المتواصلة نحو التحديث والتمكين المؤسسي. فالديمقراطية في الأردن ليست شعاراً سياسياً، بل هي مشروع وطني مستمر ينهل من الإرث الهاشمي، ويستمد قوته من ثقة القيادة بشعبها، ومن إيمان الأردنيين بأن دولتهم وجدت لتبقى، ولتنمو، ولتكون نموذجاً في المنطقة في الحكمة والاستقرار والبناء.
