في قلب النزاعات المسلحة، يقف الصحفيون في الخطوط الأمامية حاملين الكاميرا لا البندقية، باحثين عن الحقيقة لا الصراع، ناقلين للواقع لا صانعين له. ورغم أن القانون الدولي الإنساني يمنحهم حماية صريحة، فإن الاستهداف المتعمد للصحفيين بات سلاحًا يستخدمه المعتدون لإسكات الصوت وكسر الصورة.
ينظر القانون الدولي الإنساني إلى الصحفيين على أنهم مدنيين، طالما لم يشاركوا مباشرة في الأعمال العدائية. وتنص المادة 79 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977 على أن: “يجب حماية الصحفيين الذين يؤدون مهام مهنية خطرة في مناطق النزاعات المسلحة بصفتهم مدنيين، شرط ألا يقوموا بأي عمل يخل بوضعهم كمدنيين”.
وبالتالي، فإن أي استهداف متعمّد لهم يُعد انتهاكًا جسيمًا للقانون الدولي، بل ويرقى إلى جريمة حرب بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
الصحفي الذي لا يحمل سلاحًا، ولا يشارك في القتال، لا يجوز استهدافه تحت أي ذريعة. ومع ذلك، تتواصل الانتهاكات، خاصة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، التي سجلت سجلًا أسود في هذا المجال، سواء في جنوب لبنان أو قطاع غزة أو غيرها من ميادين العدوان.
أين المسؤولية دولية تجاه سلامة الصحفيين؟
لا تكمن الحماية الحقيقية للصحفيين فقط في النصوص القانونية، بل في تطبيقها ومحاسبة من ينتهكها. فالقانون الدولي الإنساني لا يمنح الصحفيين حمايةً نظرية فحسب، بل يُحمّل جميع أطراف النزاع سواء كانت دولًا أو جماعات مسلحة مسؤولية واضحة ومباشرة في ضمان سلامتهم.
تتمثل هذه المسؤولية في:
حماية الصحفيين من أي أذى أثناء تأدية مهامهم.
عدم عرقلتهم أو استهدافهم بأي شكل من الأشكال.
التحقيق الجاد والفوري في أي هجوم أو انتهاك يتعرضون له.
محاسبة المسؤولين عن تلك الانتهاكات وفقًا للقانون الدولي.
وقد جاء التأكيد على هذه المبادئ في عدة قرارات صادرة عن مجلس الأمن الدولي، أبرزها القرار رقم 2222 لعام 2015، الذي شدّد على:
ضرورة حماية الإعلاميين العاملين في مناطق النزاع، وضمان المساءلة الكاملة عن الجرائم المرتكبة بحقهم.
إن مسؤولية المجتمع الدولي اليوم باتت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، فغياب الردع يشجّع المعتدين، والصمت يُحوّل الضحايا إلى أرقام، والحقيقة إلى ضحية إضافية.
الا أنه رغم وضوح القانون، لا تزال آلة الاحتلال الإسرائيلي تمعن في استهداف الصحفيين، وتعتبر الكاميرا تهديدًا يُواجه بالرصاص. ففي لبنان، وفي غزة، سقط شهداء الصحافة واحدًا تلو الآخر، وهم يحملون رسالة الشعوب، وينقلون للعالم ما يحاول الاحتلال طمسه.
ومن بين هؤلاء، لا يمكن أن ننسى شيرين أبو عاقلة، التي اغتيلت بدمٍ بارد رغم ارتدائها الزي الصحفي، أو يوسف أبو حسين في قصف مباشر لمنزله، أو رائد الشيخ وحسن نصر وسمير أبو دقة الذين استُهدفوا وهم ينقلون معاناة الناس.
آخر الشهداء الى يومنا هذا، الصحفي صالح الجعفراوي، كان صوتًا حرًا وعدسةً شجاعة. لم يحمل سلاحًا، لكنه حمل الحقيقة، ونقلها للعالم كما هي: دون تزييف، دون تحريف. استُهدف بينما كان يوثق الجريمة، فكان هو نفسه ضحية لها.
استُشهد الجعفراوي لكنه لم يسقط، لأن الصورة التي التقطها ستبقى، والرسالة التي أوصلها ستدوي. رثاءه لا يكتبه الحبر، بل تكتبه دموع زملائه، وآهات من تبقى منهم على قيد الخطر، يواصلون الرسالة.
إن السكوت عن الجرائم المرتكبة بحق الصحفيين هو تواطؤ بصمت، ومشاركة غير مباشرة في إخماد صوت الحقيقة. لم يعد كافيًا أن يكتفي المجتمع الدولي بإصدار بيانات الشجب والاستنكار، بل بات لزامًا عليه أن يتحمل مسؤوليته الأخلاقية والقانونية عبر خطوات واضحة:
* فتح تحقيقات دولية مستقلة في جرائم استهداف الصحفيين.
* محاسبة الجناة أمام العدالة الدولية، دون تمييز أو انتقائية.
* فرض حماية فعلية وملزمة للصحفيين والإعلاميين في مناطق النزاع.
فلا يجوز أن يُقتل الصحفي لأنه نقل الحقيقة، ولا أن تُستهدف الكلمة لأن فيها قوة تفوق الرصاص. الكاميرا ليست عدوًا، والعدسة ليست سلاحًا، والصحفي ليس هدفًا مشروعًا.
الصحافة ليست جريمة. والتصوير ليس عملًا عدائيًا. واستهداف من يوثق الحقيقة جريمة لا تسقط بالتقادم.
في وجه هذا العدوان المستمر، تبقى عدسة الشهيد صالح الجعفراوي مفتوحة… تلتقط للحظة الأخيرة صرخات الأبرياء، وأشلاء الحقيقة التي حاول الاحتلال تمزيقها.
استُشهد صالح، لكن الصورة التي التقطها ستبقى حيّة، وستشهد على الجريمة، وعلى تخاذل العالم.
فهل سيبقى العالم مُغمض العينين؟ أم آن له أن يرى… ويتحرك؟
د. الحلبي – صحافية سابقة – دكتوراه في القانون الخاص الجامعة الاسلامية في لبنان منسقة قطاع الحماية القانونية في اتحاد الجمعيات الاغاثية والتنموية في لبنان عضو في المبادرة الدولية للقانون الدولي الانساني والشباب