البيئة ليست فقط الأرض التي نمشي عليها أو الهواء الذي نتنفّسه، بل هي التجربة الكاملة للوجود: ماءٌ ونباتٌ وحيوانٌ ومناخٌ ومجتمع.
هي الأفق الذي يرى فيه الإنسان ماضيه ومستقبله، بل كل ما بينهما.
وعندما يصبح هذا الأفق مهددًا، لا يبقى أمام الإنسان إلا أن ينتبه، أن يصغي، أن يتحرّك.
فالبيئة ليست مجرد إطار خارجي لحياتنا، بل هي قلب الوجود، هي التربة التي تحتضننا، والماء الذي يمنحنا البقاء، والهواء الذي يحيط بأنفاسنا.
وحين تختنق البيئة، يختنق معها الإنسان.
وأنا أكتب هذه الكلمات، أشعر بأن الأرض تتنفس معنا، وتئنّ معنا… أحيانًا أضع يدي على التراب، فأشعر بنبضه الخافت، وكأنه قلب أمّ أنهكها أبناؤها جحودًا ونسيانًا.
في الرابع عشر من أكتوبر من كل عام، نتذكّر أن القضية البيئية ليست هامشية، بل جوهرية للبقاء والتطور وللروح الإنسانية.
فهذا اليوم ليس طقسًا بروتوكوليًا، بل مرآة تعكس أين نقف من معركتنا الكبرى: معركة البقاء في مواجهة التصحّر وشحّ المياه والتلوث وتغير المناخ.
بدأ “يوم البيئة العربي” عام 1986، حين اجتمع مجلس جامعة الدول العربية في تونس، وأصدر قراره بتأسيس “مجلس وزراء العرب المسؤولين عن شؤون البيئة”.
وفي عام 1987 تم أول اجتماع فعلي للمجلس، وأُعلن يوم 14 أكتوبر من كل عام “اليوم العربي للبيئة”، لتنسيق الجهود العربية في مواجهة التصحر، وزيادة الوعي البيئي، والعمل نحو التنمية المستدامة.
كنتُ دائمًا أؤمن بأن الوعي البيئي لا يُفرض بالقوانين فقط، بل يُزرع في الضمير كما تُزرع البذور في التربة. وإذا سقيناها حبًا، ستثمر وعيًا ونقاءً.
يُعد هذا اليوم منصةً لتذكير الناس بأن حماية البيئة تبدأ من البيت والمدرسة والشارع، قبل أن تكون مسؤولية الحكومات.
وهو فرصة لتوحيد المواقف العربية تجاه القضايا الكبرى: التصحر، تغير المناخ، التلوث، وندرة المياه.
كما أنه مناسبة للتشاور وتبادل الخبرات، وإطلاق مبادرات التشجير وإعادة التدوير، وإقامة المحميات الطبيعية، ووضع القوانين الرادعة.
كم مرة فتحت نافذتي في الصباح، وقلت في نفسي: كم هو جميل أن نعيد للعصافير سماءها الصافية!
تخيل صحراء مهملة، رياحها تنقل الغبار، أرضها متشققة، وسماؤها تسكب غبارها على وجوه الأطفال، وعيونهم تبحث عن ظلٍ وعن ماء.
ثم تخيل أن تلك الأرض، بعد سنواتٍ من الصبر، تكسوها الأشجار، وتملؤها أغنيات العصافير، ويسير فيها الناس برداءٍ أخضر والماء يسري في مجراها.
تلك الصورة تشبه حياتنا نحن أيضًا… قد نجدب أحيانًا من الداخل، لكن قطرة وعيٍ واحدة كفيلة بأن تُعيد فينا النبض الأخضر.
تشير الإحصاءات البيئية إلى أن التصحر بات يهدد جوهر الحياة في العالم العربي، حيث تتأثر نحو 65% من الأراضي بدرجات متفاوتة من التدهور، منها 20% تعاني تصحراً متقدماً.
الأردن… واحات خضراء في قلب التحديات
رغم محدودية الموارد، نجح الأردن في كتابة قصة بيئية مشرفة.
فقد أنشأ وزارة البيئة في التسعينات، وأطلق استراتيجيات وطنية للتنمية المستدامة، وسنّ تشريعات لحماية الموارد الطبيعية.
ومن أبرز مشاريعه البيئية إعادة تأهيل واحة الأزرق التي كانت مهددة بالجفاف، فعادت ملاذًا للطيور المهاجرة ومركزًا بيئيًا عالميًا.
كما استثمر الأردن في الطاقة الشمسية والرياح لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري بمشاريع مثل مزرعة الطفيلة للرياح، مثبتًا أن الإرادة السياسية الصادقة قادرة على صنع الفارق رغم الفقر المائي.
العراق… بين وجع الماء وأمل الخضرة
العراق، أرض الرافدين، مهد الحضارات الخضراء، يعيش اليوم صراعًا مع التدهور البيئي، لكنه لم يفقد الأمل.
من أبرز إنجازاته مشروع إحياء أهوار العراق الذي أعاد الحياة والطيور إلى هذه الجنة المائية، وأُدرجت على قائمة التراث العالمي عام 2016.
لكن التحديات ما زالت قائمة: التلوث، الحروب، السدود، وشح المياه.
كم يوجعني أن أرى دجلة والفرات، وقد ضاق بهما الجريان! كانا يرويان الحكايات للحضارات القديمة، فهل نعيد لهما صوت الماء؟
وهل تعود أرض العراق أرض السواد، كنايةً عن الأرض الخصبة طيبة الثمار؟
كثير من الدول حول العالم تذكّرنا أن الثروات بلا إدارة تصبح عبئًا لا نعمة، وأن الحروب والأزمات تلعب في مصير الأرض وثرواتها كما تلعب في مصير الشعوب.
علينا أن نتساءل بصدق: كيف نجعل الموارد القليلة تدوم؟ وكيف نوقف نزيف الموارد الغنية قبل أن تتحول إلى سراب؟
أحيانًا، لا تحتاج الأرض إلى معجزة، بل إلى صدق نية وإصرار بسيط، يشبه يد طفلٍ يغرس نبتةً بثقة الحياة.
طموحات عربية لم تكتمل بعد
ما زالت الأمة العربية بحاجة إلى:
* تشريعاتٍ موحّدة لمكافحة التلوث العابر للحدود.
* اقتصادٍ دائري يعتمد على إعادة التدوير بدل الهدر.
* خططٍ جذرية لمعالجة النفايات الإلكترونية.
* إدماج التربية البيئية في المناهج الدراسية منذ الصفوف الأولى.
ولعلّي أحلم أن أرى يومًا كتب القراءة للأطفال تروي قصص الأشجار والأنهار بدل القصص الخالية من المعنى، فوعي الطفل البيئي هو بذرة مستقبل الأرض الحقيقي.
إن غرس حبّ الطبيعة في قلوب الصغار هو الخطوة الأولى نحو إنقاذ الكوكب الكبير.
الأرض تصرخ… فهل نصغي؟
يوم البيئة العربي ليس تاريخًا في التقويم، بل مرآةٌ للضمير.
هو دعوة إلى التفكير والعمل معًا من أجل أرضٍ نظيفةٍ مزدهرة.
كيف نصنع السياسات التي تنقذ واحاتنا؟ وكيف يبدّد الإهمال موارد حضارتنا؟
إن الأرض ليست صامتة… إنها تصرخ، وإن لم نصغِ لندائها اليوم، فلن نجد غدًا ما نصغي إليه.
أؤمن بأن الإصغاء إلى الأرض يشبه الإصغاء إلى قلب أمّ، إن لم نسمع وجعها الآن، سنبكي لاحقًا على أنقاض بيتنا الوحيد: الكوكب.
