صدر للكاتبة آمال مخول رواية “حقائب فارغة” عن “دار سائر المشرق”، والتي تدور أحداثها بين المدن حيث كان يلتقي من وقت لآخر بطلا الرواية “جنان” و”خالد”، بسبب عمل الأخير الذي يفرض عليه التنقل حاملًا معه حبّه وغربته. في منتصف العمر، حين تظن المرأة أنها بلغت ذروة النضج وامتلكت مفاتيح ذاتها، تأتي الحياة لتفاجئها بحبّ لا يشبه أي حبّ مضى. “جنان”، امرأة خمسينيّة، ناجحة، مستقلّة، تعيش حياة اجتماعية صاخبة، لا ينقصها شيء سوى ذلك الشعور الذي يوقظ القلب من سباته الطويل. جاءها من حيث لا تحتسب: من خلف شاشة، من رجل يصغرها بستة عشر عامًا، يعمل مهندسًا في حقول النفط، يتنقل بين المنافي والغربة، يحمل في عينيه وعدًا لا يُقال، وفي صوته شوقًا لا يُحتمل. من الرواية ننشر هذا الفصل…
هأنذا أرحل مثخنة بالشوق… أرحل عائدة إلى وطني. يقولون إنّ الوطن امرأة، الوطن هو الحبيب، فكلّ مكان لا يكون فيه خالد هو غربة ومنفى، كلّ مكان خالٍ من طيفه عدم… فقد اختصر الأمكنة والأزمنة كلّها…
هأنذا في طريق العودة، ولكن لا شيء يعود كما أتى… هناك رحيل مصحوب بما علق بنا وبما تركناه خلفنا، فيصبح المكان وعاءً نغرف من ذاكرته الأحداث، نوثّق ما عشناه، يتكثف الحنين، ويُمسي ذلك المكان وطنًا.
هأنذا عائدة… عائدة؟ لم أعد حتى هذه الساعة ولن أعود… هنا خلّفت جزءًا مني… تركت نصفي… تلك الأرض التي خبّأت أجزائي في كلّ زاوية من زواياها… بعثرتها كما تبعثر رمالها بعد العاصفة، أجزائي التي عجزت عن التقاطها وجمعها كي أستعيدني…
أرحل مشلّعة، مبعثرة، مقسّمة إلى أجزاء بقي أهمّها مع خالد، أودعته قلبي، مشاعري، توقي، أحلامي المبتورة وتخاذلي…
كان عليّ في تلك اللّحظة أن أتخذ القرار الصَّائب، وألّا أستقلّ طائرة العودة، التي حوّلتني إلى امرأة أخرى، كان عليّ أن أذلّل كلّ العوائق التي تمنع بقائي معه، وأن أبقى، أيّ أن أتخذ قرارًا كبيرًا بحجم حبّي، وأنا أخاف من اتخاذ القرارات الكبيرة، فأهرب وأتعذب بعدها وحدي.
هأنذا أستعدّ للرَّحيل، اضطّر خالد لإيصالي إلى المطار قبل وقت طويل من إقلاع الطائرة، فقد تلقى منذ الصباح الباكر اتصالًا من مركز عمله، يعلمونه فيه أنّ حادثًا طارئًا قد وقع، ويستدعي حضوره على وجه السرعة. كان يقود السيارة على الطريق التي قطعناها منذ خمسة أيام، لكنها ليست الطريق ذاتها.
لا تتكرّر الأمكنة مرّتين… هي مرآة تنعكس عليها مشاعرنا وأحاسيسنا فتتغير بتغيّرها. هي الطريق نفسها التي سلكناها عندما أقلّني من المطار إلى الفندق… لكنني لستُ المرأة عينها التي كنتها منذ خمسة أيّام، فلم يكن خالد موجودًا في حياتي ليل نهار… ولم أكن أعرف أنّ الحبَّ قد يغيّر شكل الشمس، فعند وصولي كانت الشمس على وشك المغيب، ورغم علاقتي الملتبسة بالغروب أحسست للمرّة الأولى في حياتي كم كان جميلًا… كان الطريق يستقبلني زاهيًا، مضيئًا، وقد خلت الشوارع إلّا من كلينا، أو هكذا خيّل إليّ يومها، فخالد أفرغ كلّ الأماكن واحتلّها بحضوره.
منذ خمسة أيّام، كانت الطبيعة تستقبلني راقصةً، مهلّلة لحضوري، أمّا في ذلك اليوم فقد تغيَّرت أشعّة الشمس، فقدت توهّجها المعهود، وبهتت ألوانها… هناك لون للشمس خاصّ بالوداع، لا أستطيع وصفه بالكلمات… فشمس الوداع ليست أبدًا الشمس التي أرافقها في يوميّاتي وأنا التي تعشقها إلاّ عند الوداع… هي شمس تشاركني الدموع، أشعر بها وقد شاخت، وكأنّها ترسل أشعّتها بشق النفس، فأشعر أنَّ شعاعاتها بالكاد تصل إلى الأرض…
هأنذا في المطار، أستعدُّ للعودة على نفس الطّائرة التي أقلّتني منذ خمسة أيّام ، أجرجر خلفي أذيال الحبّ، وأحضن تعاسة سترافقني إلى ما شاء الله، فللمرّة الأولى أعيش حالة الفراق.
قبل خالد لم أكن أعرف ماذا يعني أن تنسلخ مرّة واحدة عمن تحبّ، وأنّ البعد هو الوجه الآخر للحزن.
أيقظني خالد باكرًا جدًّا في ذلك الصباح، أيقظني بقبلة رقيقة، عانقني، نظر إليَّ مطوّلًا، ثم قبّلني من جديد، لم أستطع أن أنظر إليه، خشيت أن أفقد صوابي وأجهش بالبكاء، فقد وعدته في اللّيلة السابقة أنّني لن أبكي مهما حصل…
استرقت النظر إليه، فلمحت حزنًا يرتسم في عينَيه اللّتَين اعتصرتا كلّ الدمع الذي قد ينهمر في أيّ لحظة… عينان تقولان إن تلك الأيّام التي مرّت كومضة برق، لن تتكرّر بالزخم نفسه والحبّ نفسه. شدّني خالد إلى صدره، سمعت صوت تنهيدته يخترق قلبي العاجز عن احتمال كلّ ذلك الألم… شدّني إليه بقوة، قبّلني وغرقنا في لجّة الحبّ…
وضبتُ حقيبتي في اللّيلة السابقة، بشوق العودة إلى حضن الأمّ، لأنّ البعد عن وطني مهما كان قصيرًا ورغم السعادة التي أعيشها، يصيبني بشيء من الكآبة الممزوجة بحنين يضرب في أعماقي، لا أستطيع إعطاءه شكلًا أو إدراك مصدره، هو شيء يشبه الحنين إلى منزل الطفولة، إلى كلّ المطارح التي هجرتها أو هجرتك، هي الرغبة بالعودة، “فوحدها العودة تلتصق بالوطن، تتماهى معه، تدلّ عليه”، كما يقول “حجي جابر” في روايته “سمراويت”.
لم أشعر بانتمائي لخالد حتى أصبحت في منطقة المغادرين في المطار… إذ حان وقت الرّحيل والوداع… لن أراه قبل وقت طويل… ثمّة شيء في داخلي ينبئني بأنّها المرّة الأولى والأخيرة التّي أراه فيها، لا أدري من أين أتيت بهذا الإحساس، لعلّه ألم الفراق الذي أوحى لي بهذه الأفكار الفظيعة، والتي زادت مخاوفي وحزني… لم أخبر خالد بشيء من تلك الأفكار، ولكن كلّ ما أذكره أنني بدّدت كلّ الوعود التي أغدقتها عليه، بأنّني لن أبكي ولن أجعل ذلك الوداع تعيسًا، بل سيكون وعدًا بلقاء آخر، وأنني أمسكت وجهه بيديَّ الاثنتين حتّى لا يفوتني أيّ من ملامحه، شهور وبحار وسماوات ستفصلني عن رؤيته.
فتحتُ باب السيارة وهممت بالخروج، عندها أدركت ماذا يحدث… تدفقت كلّ الدموع دفعة واحدة، تشبّثت به، أبَيْت أن أتركه، ضمّني إليه… اعتصرني، حتّى كاد أن يكسر أضلاعي… هو يشدّني إليه، وأنا أزداد التصاقًا به ظنًا مني أنني بذلك أستطيع تغيير قدرنا، فأبقى بقربه… خبّأت رأسي في صدره وبكيت، بكيت كما لم أبكِ في حياتي، بكيت كجنديّ أضاع رفيقه في أرض المعركة، بكيت ماضيّ الذي خلا من وجوده، كلّ حياتي التي اعتقدتها مليئة حتى رأيته… خبّأت رأسي في صدره، أرفض أن أرفع عينيّ حتى لا أرى الحقيقة البشعة، حقيقة أنني على وشك الرّحيل، وعلى وشك العودة وحيدة إلى حياتي الفارغة… لم أجرؤ على رفع رأسي والنظر في عينيه حتى لا يرى كلّ ذلك الحزن… أردت تجنيبه معرفة ما ينتابني من مشاعر متطرفة حادة، مسحت دموعي وابتسمت له محاولة طمأنته أنني بخير.
هوذا قلبي يبحر في عينيه ليستقرّ في أعماقهما، كما المراكب تبحر محمّلة بحزن المسافرين لفراق الأحبّة… وها هو جسدي يحفظ لمساته فوق مساحاته، كما تحفظ الشطآن آثار خطوات البحّارة فوق رمالها، ساعة الرحيل… وها أنا كلّي أهجر سمائي، وأرحل عنه… باحثةً عن دفء عينيه في مدن الشوق، كما السنونو تهاجر وترحل بحثًا عن دفء الربيع في المدن البعيدة…
تودّعنا، فبين نظراتنا وابتساماتنا وهمساتنا الكثير الكثير من الدموع، كانت تلك دموعي الأولى وأوقفت بعدها العدّ… لم أعرف بعد تلك اللّحظة وذلك الوداع إلّا الدموع… لم يكن سبب ذلك البكاء هو الحزن فقط، بل أمسى تعبيرًا عن كلّ الحالات النفسيّة المتعلّقة بخالد. أصبح ذلك البكاء كما يقول جلال الدين الرومي “مرادفًا للامتلاء”، ويكمل الرومي “لذا يبكي السعيد، ويبكي الخائف، ويبكي المتحمّس ويبكي الحزين” وهذه حالاتي كلّها مع خالد. لذلك أصبحت أبكي وأذرف الدموع حتى أستمرَّ بالعيش، غريب هذا الحبّ، غريب هذا الجنون…
ابتهلت كثيرًا حتى أبعد عني ذلك الرّحيل، أبعد عني ذلك الاحتضار، كيف ستمسي اللّيالي من دون خالد، من سيقنع الغياب أن الذكريات قد تعوضه؟
نقلا عن نداء الوطن
