لست أعني في العنوان أعلاه ما يعادل دائرة الأحوال المدنية والجوازات، تلك الدائرة المتميزة في أدائها. فالدائرة المشار إليها تعرف في عدد من دول الجوار كسورية والعراق وتركيا باسم اخر، ربما ليس في تطابق تام للمسؤوليات والخدمات المقدمة للمراجعين، ألا وهي حفظ بيانات الناس، وفي مقدمتها الميلاد والوفاة، وما بينها من معاملات كالزواج. تعرف في تلك الدول باسم آخر هو «دائرة النفوس».
هنا في بلاد العم سام، أقرب التسميات لها والأكثر تطابقا في خدماتها هو قسم تابع لوزارة الصحة اسمه «دائرة السجلات الحيوية» أو «الأحوال المدنية». التركيز في التسمية على الصفة الأولى «الحيوية» (فايْتَلْزْ)، وهي كما في قراءة طبيب الإسعاف للمؤشرات الحيوية للمريض للتحقق من وضعه الصحي ولياقته الصحية (وليس البدنية فقط)، وهذا هو المراد من هذه المقالة.
كثير من أحوالنا المدنية، بل والوطنية، منشؤها مجموعة من المؤشرات الحيوية. كما الأمن، الصحة أيضا لا تصح إلا إن كانت النظرة إليها شمولية، عميقة، تراكمية. ثمة صفة أخرى لا تقل أهمية، وهي أن تكون تفاعلية حيوية، قابلة للتعديل والتصويب والتفاعل إيجابيا، مع المحيط البشري أولا، والمادي ثانيا.
«قصة الحضارة» أو حكاية رحلة الإنسان كلها، ما هي إلا خلاصة نجاح الإنسان في الاستمرار بالوجود رغم ما واجه البشر من كوارث وتحديات طبيعية وبشرية. كما في رائعة وِلْ دْيورِنْت المؤرخ الفيلسوف البريطاني، تقوم «قصة الحضارة» على قدرة صانعها -الإنسان- على التكيف وبالتالي البقاء ومن ثم النماء.
غدا الجمعة يصادف اليوم العالمي للصحة العقلية. البعض يتحسس، فيرى تلطيف التسمية إلى الصحة النفسية، وكأنه هروب مما يراه البعض وصمة، وتلك -ويا لها من مفارقة- من بين أهداف احتفال منظمة الصحة العالمية هذا العام في العيد الذي يصادف العاشر من أكتوبر حيث يكرس كل عام لتحقيق مجموعة من الأهداف من بينها الكف عن الخوف من التعامل مع الطب النفسي والعقلي وكأنه وصمة عار أو ندبة وجب تجميلها. مجرد تفاقم آفة السموم المسماة المخدرات في العالم وتفشي العنف والرذيلة وارتفاع حالات الطلاق والعنف الأسري كلها أعراض لأمراض. جميعها لا تصدر عن نفس سوية، نفس لوّامة، نفس مطمئنة تعرف ربها وتحفظ وصاياه.
وعلى ذكر أكتوبر والكارثة التي خلفتها أحداث السابع من أكتوبر 2023، وبعيدا عن أي اعتبار سياسي أو أيديولوجي أو قومي أو ديني، ثمة أرواح (نفوس) تألمت وما زالت من أهوال وفظائع ما جرى. كلنا من تراب وإلى تراب، جميعنا يؤمن برب الأرباب خالق الناس أجمعين. و»لقد كرّمنا بني آدم».. ومن عظيم ما جاء في القرآن الكريم «ونفس وما سوّاها». ومن روعة لغتنا العربية الإشارة إلى العقل بأنه الإطار الذي يجمع ويضبط الأمور كلها، فيعقلها. دون ذلك يكون الشطط والإفراط والضياع. ومن عائلتنا اللغوية العريقة العتيقة -الآرامية والسريانية والعربية والعبرية- نعرف في رسالات السماء أن الخلق بدأ بنسمة روح وهبها الخالق لآدم فأحياه من صلصال بأن كن فكان. وما زال التعداد السكاني العابر للحدود والقارات يقاس بوحدة النسمة..
لن تكتمل دائرة نفوسنا ما لم نقر بتكاملها طريقا إلى كمالها. لن ينعم أي منا بصحة عقلية ونفسية ومن ثم بدنية ما لم تكن البداية صحيحة، الروح. إنما هي الروح التي إن صلحت واتصلت بباريها بما يعمر القلوب بالإيمان ويصلح الجوارح بالأعمال، صلحت الأشياء كلها. وتلك مسؤولية لا تقف عند وزارة الصحة وما يؤدي رسالتها وخدماتها من مستشفيات في القطاع الخاص، بل كل متكامل. لوزارات أخرى أدوار لا تقل أهمية عن وزارة الصحة، كالتربية والتعليم، والثقافة، والرياضة، والسعادة!
من يدري، قد يصبح لدينا يوما ما وزارة للسعادة كما في الإمارات الشقيقة، يعمل على خدمتها من هو أو هي في رتبة معالي. قد يكون من أوفرهم حظا متخصص في الصحة العقلية والنفسية. فالسعادة كما الرضى، ذاتية المنشأ، لا علاقة لها بما يظنه الناس من أسباب السعادة، بما فيها المال والجاه والسلطة.. وقد تعلّمنا من السيد المسيح نداءه للعالم كله: ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه..
دائرة النفوس* بشار جرار
0
