منذ اندلاع الحرب في غزة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، أثبت الأردن بقيادته الهاشمية وجيشه العربي وأجهزته الأمنية أنه صوتُ الضمير العربي ودرعُ الإخوة والإنسانية. فبين إنزالاتٍ جويةٍ نوعية، ومستشفياتٍ ميدانيةٍ متقدمة، وقوافلَ إغاثيةٍ متواصلة، جسّد الأردن عمليًا موقفه الثابت في الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني الصامد، تحت توجيهاتٍ ومتابعةٍ مباشرة من جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، القائد الأعلى للقوات المسلحة.
كان السبّاقَ إلى الإغاثة الجسرُ الجوي الأردني؛ فمنذ الساعات الأولى للأزمة أطلق سلاحُ الجو الملكي الأردني جسرًا جويًا متواصلًا إلى داخل قطاع غزة. فبلغ عددُ الإنزالات الجوية الأردنية المباشرة حتى 20 آب/أغسطس 2025 نحو 164 إنزالًا، أُسقِطت خلالها قرابة 781 طنًا من المساعدات الغذائية والطبية والإغاثية، كما نُفِّذ 400 إنزالًا مشتركًا بالتعاون مع الدول الشقيقة والصديقة مثل الإمارات وألمانيا وفرنسا وهولندا وسنغافورة وإندونيسيا.
وقد مكّنت هذه الإنزالات الأردن من الوصول إلى المناطق المعزولة داخل القطاع حين تعذّر وصول القوافل برًّا، فكانت شريانَ حياةٍ للفلسطينيين في أحلك الظروف.
وأمّا نبضُ الإغاثة المستمر -القوافلُ البرية-فقد واصلت الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية إرسالَ القوافل دون انقطاع. حتى 29 أيلول/سبتمبر 2025، بلغ مجموعُ ما تم تسييره 201 قافلة تضم 8,664 شاحنة محمّلة بالمؤن والمواد الطبية والمستلزمات الإنسانية، بحمولة تزيد عن 123,000 طن، مع جاهزيةٍ لإرسال ألف شاحنة إضافية فور فتح الممرات البرية. لقد كانت هذه القوافل برهانًا على أن الجغرافيا لا تقف عائقًا أمام المروءة الأردنية.
ولا ننسى الطبابةَ على خطّ النار؛ هنا نتحدث عن المستشفيات الميدانية للقوات المسلحة الأردنية التي امتدّت من غزة إلى نابلس وشهدت على حضورٍ أردنيٍّ لا يغيب. بدأ الحضورُ الطبي الأردني في غزة منذ أكثر من عقدٍ ونصف، حين تأسس المستشفى الميداني الأردني – غزة/الشمال في كانون الثاني/يناير 2009 بتوجيهاتٍ ملكية سامية، ليكون أولَ مستشفى عربيٍّ دائم داخل القطاع، وملاذًا آمنًا لعشرات الآلاف من الجرحى والمرضى.
ومع تصاعد العدوان في 2023، عزّز الأردن وجودَه الطبي بإنشاء المستشفى الأردني الميداني – خان يونس/الجنوب في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، ليقدّم خدماته في قلب المعاناة.
قدّم المستشفى الجنوبي وحده منذ افتتاحه خدماتٍ طبيةً لأكثر من 374,000 مريض، وأجرى آلافَ العمليات الجراحية المتخصصة، منها 22,961 حالة معالجة و462 عملية جراحية خلال شهرٍ واحد فقط.
وفي الضفة الغربية أكّد الأردن رسالتَه الطبية عبر المستشفى الميداني الأردني في نابلس الذي بدأ تشغيلُه أواخر عام 2023، وقدّم حتى شباط/فبراير 2025 خدماتٍ علاجيةً لأكثر من 165,578 مريضًا، بإشراف طواقم الخدمات الطبية الملكية. واجمالي من راجعوا المستشفيات الميدانية بلغ 704,000 مراجع، وإجراء 27,000 عملية جراحية.
ولتسمو الإنسانيةُ بأبهى صورها، ولِيُزرَع الأملُ حيث تُبتر الحياة، أُطلقت مبادرة «استعادة الأمل» الإنسانية الفريدة؛ إذ أعلن الأردن برنامجَ زرعٍ وتركيبِ الأطراف الصناعية بالتعاون مع الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية والخدمات الطبية الملكية. وقد استفاد منها حتى الآن 599 مصابًا -حتى آخر إحصاء متاح- من مبتوري الأطراف في غزة، ضمن برنامجٍ شاملٍ يشمل الفحصَ والتركيبَ والتأهيلَ والدعمَ النفسي. هذه المبادرة جسّدت المعنى الحقيقي لـ«الطب الإنساني» الذي لا يعرف الحدود.
ولم يقتصر العطاء الأردني على غزة، بل امتدّ بثباتٍ نحو الضفة الغربية والقدس؛ فقد قدّم الأردن نحو 15 ألف طن من الحبوب دعمًا للمزارعين في مختلف مناطق الضفة الغربية، إلى جانب مساعداتٍ ماليةٍ وعينية تقدَّر بحوالي 128 مليون دولار خُصصت لدعم الضفة والقدس ضمن إطار المساعدات الأردنية الرسمية لفلسطين.
وسياسيًا، ظلّ الأردن المدافعَ الأشدَّ ثباتًا عن الضفة الغربية والقدس، مؤكّدًا رفضَه المطلق لمحاولات الضمّ والتهجير أو المساس بالمقدسات الإسلامية والمسيحية، ومتمسّكًا بحلّ الدولتين على حدود الرابع من حزيران 1967.
وجاءت تحرّكاتُ جلالة الملك عبدالله الثاني في المحافل الدولية لتُجسّد هذا الموقف المبدئي؛ إذ تصدّر الدفاعُ عن القضية الفلسطينية خطاباتِ جلالته واتصالاتِه الدولية، مؤكّدًا أن الأردن لن يقف متفرجًا على معاناة شعبٍ تربطه به وحدةُ الدم والمصير.
إنّ هذا الجهد الوطني الإنساني والسياسي لم يكن ليبلغ هذا المستوى من العطاء والفاعلية لولا التوجيهاتِ والمتابعةَ المستمرة من جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، الذي جعل من نصرة الشعب الفلسطيني أولويةً وطنيةً وإنسانيةً راسخة. فقد جسّد القواتُ المسلحة الأردنية – الجيش العربي وسلاحُ الجو الملكي أوامرَ القائد الأعلى على أرض الواقع ببطولاتٍ وتضحياتٍ وشجاعةٍ قلّ نظيرها، في وقتٍ كانت فيه السماءُ والأرضُ تغُصّان بالأخطار. كما برز الدورُ النوعيُّ لـ دائرة المخابرات العامة وكافةِ الأجهزة الأمنية الأردنية التي عملت بصمتٍ وكفاءةٍ عالية لتأمين مسارات الإغاثة وتنسيق العمليات الميدانية والإنسانية على أعلى المستويات. لقد كان الجميع -من القيادة إلى الميدان- على قلبٍ واحد، في مشهدٍ يعبّر عن وحدةِ القرار الأردني والتكاملِ بين مؤسساته دفاعًا عن القيم الإنسانية ودعمًا للأهل والأشقاء في فلسطين.
حضورٌ في الميدان وصوتٌ في العالم* الدكتور ايهاب العابودي
4
المقالة السابقة
