في خضمّ الأزمات الكبرى التي تمرّ بها منطقتنا، تخرج من بين التفاصيل دروس صغيرة، لكنها عميقة الدلالة، فالأزمة الأخيرة لم تكتفِ بكشف المواقف السياسية، بل عرّت الواقع الإعلامي المحلي، وأظهرت أن الخلل لم يكن في الرسالة وحدها، بل في من يتولى إيصالها.
لقد ثبت بالدليل القاطع أن إعلامنا، في كثير من مساحاته، لم يكن بمستوى الحدث ولا بقدر المسؤولية، فبدل من أن يكون منبرًا يعبّر عن الموقف الوطني بثقة ووعي، تحوّل إلى ساحة لتكرار الوجوه ذاتها، وأصوات تحليلات مستهلكة، لا تحمل من العمق إلا الاسم.، ونرى المحللون يظهرون بكثافة غير مسبوقة، حتى ظنّ الناس أنهم موظفون دائمون لدى القنوات، لا ضيوفًا عابرين.
هذه الوجوه لم تنجح في إقناع الجمهور، ولا في الدفاع عن الموقف الوطني بمهارة، بل وضعت نفسها في موقع المدافع المتوتر، لا المتمكن الواثق. وهنا كان الخطر: حين يفقد الإعلام قدرته على الإقناع، يبدأ الجمهور بالبحث عن مصادر بديلة، مهما كانت درجة مصداقيتها، فتتراجع الثقة العامة، ويتراجع معها تأثير الدولة في وعي مواطنيها.
والأخطر أن هناك من لا يزال يظن أن الناس يمكن أن تُقاد بالعاطفة أو التكرار. ينسون أن وعي المواطن اليوم لم يعد كما كان، وأن النقد الذي يُكتب بالأسماء الحقيقية، لا بأسماء وهمية، هو تعبير عن غير الرضا، لا مؤامرة من الخارج. فاتهام كل صوت ناقد بأنه “ذباب إلكتروني” أو “تيار معارض” ليس سوى هروب من مواجهة الحقيقة.
الإعلام، في جوهره، ليس أداة تجميل ولا وسيلة للمكابرة، بل هو سلاح استراتيجي يُستخدم لصناعة الثقة وحماية الوطن. ومن يعتقد أنه يستطيع “مجاكرة” الشعب عبر تلميع أو إقصاء أو حذف التعليقات، إنما يسيء لوطنه قبل أن يسيء لنفسه.
من هنا، تبدو الحاجة ماسّة إلى وقفة مراجعة صادقة. المطلوب ليس جلد الذات، بل إجراء تقييم حقيقي ونزيه، ربما عبر استطلاع رأي علمي غير معلن، يُدرس بموضوعية لمعرفة اتجاهات الناس وثقتهم بالإعلام الرسمي. فالحقيقة لا تُصنع خلف المكاتب، بل تُقاس من نبض الشارع.
وفي النهاية، القصد ليس الهجوم ولا الانتقام، بل حماية الوطن من ضعف أدواته.
فالإعلام الواعي لا يبرّر، بل ينوّر.
ولا يدافع عن الدولة بعصبية، بل يرفعها بالحكمة.
والله من وراء القصد
حين يفشل الإعلام في قول الحقيقة ويُجادل شعبه… من يدافع عن الوطن؟* الدكتور محمد أبو هديب
13
