عروبة الإخباري –
كان الأمير أبو عبد الله محمد الثاني عشر، الذي لقبه الإسبان بـمحمد الصغير، وأطلق عليه أهل غرناطة اسم التعيس، آخر ملوك بني نصر (بنو الأحمر) المسلمين في الأندلس (إسبانيا اليوم).
وفي عهده، تمكنت الجيوش الأوروبية، بقيادة الملكين الكاثوليكيين فرديناند الثاني ملك أراغون، وإيزابيلا الأولى زوجته ملكة قشتالة، من هزيمته في 2 يناير (كانون الأول)1492م، بعد حصار طويل؛ فلم يجد أمامه سوى خيار الاستسلام.
رفض أهل غرناطة الاستسلام، وأعدوا جيشاً للمواجهة، لكن محمداً عقد اتفاقاً سرياً مع فرديناند وزوجته، وراح يماطل حتى دبّ اليأس في الشعب، وتفكك الجيش، وضاع السلاح، وسلم مفاتيح المدينة، على أمل بقاء المسلمين في أرضهم بكرامة.
وفي مطلع ذاك العام، أُسدل الستار على آخر فصول الحكم الإسلامي في الأندلس. خرج الأمير من قصر الحمراء، وحصل على قطعة أرض في أندرش جنوب الأندلس، ثم عبر البحر الأبيض المتوسط إلى المغرب، حيث قضى بقية حياته، وتوفي ودُفن في مدينة فاس.
وبهروبه، هَجَر وهُجِر سكان غرناطة وتوجهوا إلى شمال إفريقيا.
كان يوم مغادرته مليئاً بالانكسار، ليس على صعيد الفرد فحسب، بل على صعيد الحضارة بأسرها؛ فهو لم يكن مجرد أمير مهزوم، بل آخر من حمل راية دولة بني نصر التي صمدت قروناً بين جبال الأندلس، في وجه الزحف الأوروبي.
خرج الأمير المهزوم من قصره، برفقة حاشيته وأهله، متجهاً نحو الجنوب، حيث تنتظره المنافي (أي الأراضي البعيدة).
فنظر إليها نظرة وداع، عاجزاً عن استعادة ما فات. وانهمرت دموعه بالبكاء، وبين الحيرة والحزن، قالت له والدته، وكأنها تلومه وتعزيه:
“ابكِ مثل النساء مُلْكاً لم تحافظ عليه مثل الرجال.”
ومنذ ذلك الحين، تناقلت الأجيال تلك الكلمات، ليس لأنها موجهة إلى الأمير المهزوم فحسب، بل إلى الأمم المهزومة، وإلى أجيال من الحكام الذين يفرطون بوحدة الصف، ويضيعون المجد.
حين سقطت غرناطة، لم تسقط مدينة فحسب، بل سقطت فكرة الدولة الإسلامية في الأندلس، نتيجة التفكك الداخلي، وسوء تقدير الحسابات، والانشغال بالمصالح الشخصية.
وتَبايَن المؤرخون في تقييم دور الأمير محمد، بين من اعتبره خائناً سلّم البلاد، وآخرين رأوه ضحية واقع لا يسمح بالمقاومة. وفي كلتا الحالتين، لم يسلم من الملامة.
تسقط الدول عندما يسقط حكامها في السياسة قبل الميدان، وتعجز الشعوب حين تُبتلى بكمٍ من السياسيين العاجزين، القاصرين فكرياً عن التنبّؤ بالأحداث، ورسم المسارات الواضحة، ودراسة الوقائع، وأخذ العِبر من التاريخ.
غرناطة سقطت بتشرذم أهلها، وسوء تقدير وتدبير حكامها.
ومنذ خمسة قرون ونيف، ضاعت إلى الأبد.
فهل ينطبق مثال غرناطة على أحداث المدن والدول العربية اليوم؟