عروبة الإخباري –
في زمن باتت فيه الساحة القانونية تفتقر إلى الأصوات البحثية الرصينة، يأتي مقال المحامي القدير عزالدين الفقيه، كعمل علمي قانوني متميز، ليس فقط من حيث السرد والتحليل، بل من حيث المنهجية الفقهية التي جمعت بين الدقة، والبعد العملي، وعمق الفهم لتوجهات السياسة العقابية المعاصرة. مقاله حول التعديلات التي طرأت على قانون العقوبات الأردني بموجب القانون المعدل رقم (12) لسنة 2025 هو بحق نموذج يُحتذى في القراءة القانونية المستنيرة.
عمق فقه وتحليل قانوني من الطراز الرفيع
ما يميز مقال الأستاذ عزالدين هو قدرته على الربط بين النص القانوني والمآل التطبيقي، إذ لم يكتفِ بعرض التعديلات من منظور نظري، بل غاص في جوهرها، كاشفاً عن تأثيرها العملي على الدفاع، والقضاء، والعدالة الجنائية برمتها.
تحليله لتعديل المادة (22) من القانون، والتي أصبحت تتيح تقسيط الغرامة أو تأجيلها، جاء في منتهى الوضوح والدقة، مشيراً إلى نقلة نوعية في النظرة إلى الغرامة كعقوبة مرنة بديلة عن الحبس. وقد أحسن الأستاذ عزالدين في إظهار التحديات التطبيقية التي قد تواجه هذا التعديل، لا سيما في غياب معايير واضحة لتقدير الإعسار، وهو ما يفتح المجال لاجتهادات قد تتفاوت بين قاضٍ وآخر.
بدائل العقوبة: قراءة متقدمة لفكر جنائي حديث
في معالجته للمادة (25 مكررة)، برع الزميل عزالدين في تفصيل صور بدائل العقوبات السالبة للحرية، كالمراقبة الإلكترونية والخدمة المجتمعية، بأسلوب يعكس فهمًا دقيقًا لفلسفة التجريم والعقاب الحديثة. وقد نجح في تسليط الضوء على البعد الإصلاحي لهذه البدائل، بعيدًا عن منطق العقوبة المجردة.
كما يُحسب له تسليطه الضوء على صلاحية القاضي في اقتراح البديل الجزائي وتقدير مناسبة تطبيقه، مما يعكس فهمًا عميقًا لدور القضاء كفاعل اجتماعي، لا مجرد أداة للإنفاذ.
العدالة التصالحية وإسقاط الحق الشخصي
في تناوله لتعديل المادة (52/2)، بيّن الأستاذ عزالدين أهمية منح إسقاط الحق الشخصي أثرًا بعد صدور الحكم القطعي، في جرائم محددة. وقد أحسن في بيان كيف أن هذا التعديل يكرّس فلسفة العدالة التصالحية، التي تسعى إلى تحقيق السلم المجتمعي دون الإخلال بحق الدولة في المعاقبة.
كلمة في حق المقال وصاحبه
بدون أدنى شك بأن مقال الأستاذ المحامي، عزالدين، ليس مجرد قراءة قانونية لتعديلات تشريعية، بل هو جهد فكري ناضج، يعبّر عن وعي قانوني عميق، وغيرة مهنية حقيقية على عدالة العقوبة وصحة الإجراءات، لقد قدّم للمشتغلين بالقانون – قضاة ومحامين ومدعين عامين – خارطة طريق لفهم روح النصوص الجديدة، والاستفادة منها على نحو يكفل العدالة ويحفظ الحقوق.
وفي زمن السرعة والمعلومة السطحية، تأتي كتابات من هذا النوع لتذكّرنا أن القانون، قبل أن يكون نصًا، هو فكر، ومنهج، ورسالة. فكل الشكر والتقدير للأستاذ عزالدين على مقاله النوعي، الذي نأمل أن يكون باكورة لسلسلة من الإضاءات القانونية التي تسهم في ترسيخ ثقافة قانونية واعية ومتجددة.