عروبة الإخباري –
في زمنٍ بات فيه الصخب يعلو على الحكمة، والانفعال يسبق التأمل، والفرقة تقتات على بقايا الوحدة، تخرج علينا الدكتورة، فلك مصطفى الرافعي، ببيانٍ نادرٍ في شجاعته، رفيعٍ في خطابه، نقيّ في نواياه، عميق في مراميه، لتضع النقاط على الحروف، وتعلن بصدق وعقل وبصيرة أن الأمة بحاجة إلى صوت العقلاء، لا ضجيج المزايدين، وإلى بصيرة الروّاد لا بصمات المتقاعسين.
لقد قدّمت الدكتورة فلك بياناً يتجاوز كونه “رأي شخصي” ليصبح وثيقة فكرية إنسانية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فهو دعوة نقيّة للمصالحة الإيمانية مع الذات، مع الآخر، ومع التاريخ، دعوة نابعة من إيمان راسخ بأن الكلمة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وبأن الحوار هو السبيل، لا القطيعة، والرحمة هي الأصل، لا الإدانة.
بأسلوبها الذي جمع بين بلاغة الموروث، وجرأة الحداثة، ونبل الغاية، أثبتت الدكتورة فلك أنها وريثة حقيقية لمدرسة والدها العلامة الكبير د. مصطفى الرافعي – ذلك المفكر الذي سبق زمانه في الدعوة إلى التقريب بين المذاهب، وفي التأسيس لعقلية جامعة لا مفرّقة، عقلية ترى في الاختلاف تنوعاً لا تهديداً، وفي الحوار جسر عبور لا متراس نزاع.
بيانها لم يكن مجرد تذكير بالأخطاء، بل كان جرس إنذار بليغ يُقرع في أذن كل من يريد أن يسمع: كفانا جلدًا للذات، كفانا محاكمات تاريخية تنهش رماد الراحلين، كفانا عبثاً بتفاصيل الماضي لنهرب من مسؤولية الحاضر والمستقبل. لقد وضعت الدكتورة فلك يدها على جراحٍ ظنّ البعض أنها التئمت، فإذا بها تنزف كل يوم في وجدان الأمة، فإذا لم نطهرها، فسنبقى في دوامة لا تنتهي من الفتن والأحقاد.
إن إشارتها إلى رموز الأمة من صحابة وأئمة وأهل بيت، كانت إشارة تكريم وتوقير لا جدال فيها، فقد رفضت الزيف، وفضحت التزوير، وأعادت التوازن للعقل المسلم الذي ضل الطريق حين وضع نفسه في مقام الله، وكأنه يمتلك مفاتيح الجنة والنار.
وإن أقوى ما في هذا البيان، أنه لم يأتِ بلغة الفاتحين ولا بلسان المتعصبين، بل بلغة الأم الرؤوم، والمثقفة الواعية، والمواطنة الغيورة، التي تؤمن أن العنف لا يبني أمة، وأن التكفير لا ينبت زهراً، وأن الإيمان الحقيقي لا يُختزل في فتاوى العنف بل في فقه الرحمة.
فكل سطر من بيانها هو وقفة صدق، وكل فكرة فيه هي لبنة في بناء عقل عربي وإسلامي جديد. إنها لم تبكِ على الماضي، بل دعت لتجاوزه بوعي ومسؤولية، لم تتورّط في استجداء الحنين بل رفعت شعار التقدّم نحو الغد النظيف من أدران التنازع الطائفي والمذهبي، ذلك الغد الذي يُعيد للإنسان كرامته، وللأوطان أمنها، وللدين طهارته.
وإن كانت الدكتورة فلك قد صدحت بقولها:”اللهم قد بلّغت… اللهم فاشهد”, فنحن بدورنا نقول:
نعم قد بلّغتِ، وبأرقى أساليب البلاغ، قد عبّرتِ، وبأعمق نوايا الإصلاح، قد دعوتِ، وبتواضع الحكماء، قد نصحتِ.
فلكِ من كل صاحب ضمير حي، ومن كل مثقف غيور، ومن كل مؤمن بوحدة هذه الأمة، أسمى آيات الإشادة والعرفان.
رحم الله الوالد العظيم، فقد خلّف مدرسة، وبارك الله فيك، فقد حافظتِ على أمانتها، وكتبتِ اليوم فصلاً جديداً في دفتر الوعي العربي والإسلامي الناضج.
اللهم فاشهد أن د. فلك مصطفى الرافعي قد بلّغت… ونِعم البلاغ.