عروبة الإخباري –
في زمنٍ كثر فيه الضجيج الإعلامي وازدحمت فيه الساحة بأسماء تبحث عن الأضواء، بقي شاهر حامد النمورة (أبو حامد) استثناءً نقيًا، صحفيًا نذر قلمه للحقيقة، ومناضلًا اختار العمل بصمت، لا تزلف فيه ولا استعراض.
وُلد النمورة في دورا – الخليل عام 1953، ليكون منذ نعومة أظفاره شاهدًا على تحولات الوطن، وفاعلًا فيها. كانت تجربته النضالية مبكرة، حيث عرف الاعتقال والنفي، وذاق مرارة السجون، لكنه خرج منها أكثر صلابة، وأكثر انحيازًا لفلسطين التي أحبّها حدّ الوجع.
من بيروت إلى القاهرة.. فصوت الشعب
لم يكن مجرد صحفي. بل كان حامل رسالة، فقد تنقل المغفور له بين بيروت والقاهرة وعمّان، وهناك تشكّل وعيه الصحفي والنضالي، في القاهرة، درس الإعلام، وتحوّل من مناضل ميداني إلى مثقف عضوي، كتب ليُلهب الذاكرة، لا ليرضي مزاج الحاكم.
وفي الأردن، عمل في صحفٍ يومية مثل صوت الشعب، الشعب، الأسواق، الدستور الأردنية، وكانت مقالاته شاهدة على زمنٍ عربيّ متقلّب، لكنه ظل ثابتًا على موقفه، فلسطينيًّا في الانتماء، عربيًّا في الهوية، إنسانيًّا في الطرح.
ثم عاد إلى فلسطين، ليكمل المسيرة من خلال جريدة القدس، وليُسهم لاحقًا في النشاط الثقافي من خلال مركز شهداء دورا الثقافي، الذي كان له بمثابة المنبر الحر الأخير.
صحفي لا يساوم.. ومناضل لا يتراجع
ما ميّز شاهر النمورة لم يكن فقط قلمه، بل نقاء سريرته، ورفضه الدائم لأي شكل من أشكال المتاجرة بالموقف أو التسلّق على حساب المبادئ. لم يسعَ يومًا لمنصب، ولم يبحث عن شهرة، وكان دائمًا يقول: “أكتب كي لا ننسى، لا كي تُصفّق لي المنابر.”
كان رفيقًا لثلة من المناضلين الكبار، ومحبوبًا لدى كل من عرفه، لأنه كان إنسانًا قبل أن يكون إعلاميًا. لم تغيره العواصم ولا المراحل، ظل كما عرفه أبناء الخليل ودورا: ابن الأرض، وصوت الحق، وسند الكلمة الحرة.
الوداع الأخير.. لكنه لم يغب
في ديسمبر 2024، طوى شاهر النمورة صفحته الأخيرة بعد صراع طويل مع المرض، لكن ما تركه من أثر لن يُمحى. رحل الجسد، لكن بقيت القيم التي زرعها، والكلمات التي خطّها، والمواقف التي تبنّاها، لتشهد له، لا عليه.
باسمه تتذكّر الصحافة الفلسطينية شرفها، وبسيرته تُستعاد معاني الالتزام والانتماء. أما نحن، فلا نملك إلا أن نقول له:
شكرًا شاهر، لأنك كنت النبض الهادئ في عاصفة الكلمات.
لا يمكنني أن أنساه… لأن النبل لا يُنسى
في زحام الحياة ومرور السنين، ننسى الكثير… لكن هناك من يتركون أثرًا فينا لا يُمحى، لأنهم ببساطة، كانوا أكبر من اللحظة، وأصدق من المجاملة، وأعمق من المعرفة العابرة.
هكذا كان شاهر حامد النمورة بالنسبة لي، صحفيًا وأخًا وأستاذًا، لم يبخل يومًا بمعلومة، ولم يتردد لحظة في أن يمنح مما يعرف — لا رياءً ولا استعراضًا — بل محبةً خالصة، ونُبلًا نادرًا.
عرفته في التسعينيات، وعرفت عائلته العزيزة عن قرب. بيتهم لم يكن مجرد منزل، بل بيت وطنٍ صغير، ينبض دفئًا، وتفيض منه الطيبة، وتُزرع فيه القيم. كانوا مثالًا في الكرم والأخلاق، كما كان هو مثالًا في التواضع والمعرفة.
جاءت الضربة القاسية… يوم انتقلت ابنته الكبرى، فلسطين، إلى رحمة الله.
كم بكيت.
كم تألمت.
كم شعرت أن جزءًا من الضوء خفت… فـ”فلسطين” لم تكن فقط اسمًا، كانت قصيدة عائلية تمشي على الأرض، تحمل ملامح والدها وقيمه، وتُشبه الحلم الذي لطالما ناضل لأجله.
لم أكتب هذا لأرثي، بل لأُوفي.
ولأقول، أمام هذا الغياب الذي لا يُعوّض:
لن أنساك، أبا حامد…
لأن الرجال الصادقين لا يُنسَون،
ولأن من أنجبوا فلسطين، هم في حدّ ذاتهم وطن.
شاهر النمورة… أخي الكبير، وعلَمٌ لا يُنسى
في حياتي أشخاص عابرون، وآخرون راسخون…
أما شاهر حامد النمورة (أبو حامد)، فكان ولا يزال من أولئك الذين يغرسون فيك شيئًا لا يفارقك مهما مرّ الزمن.
رحيله لم يكن خبرًا…
بل صاعقةً نزلت على قلبي.
عرفته في التسعينيات، يوم كان هو أخًا كبيرًا، وأستاذًا قامة، لا يبخل لا بكلمة ولا بفكرة، ولا بحبّ.
أحببته كما لم أحبّ إلا القليل، لأنّه كان صادقًا… وفيًّا… صاحب مبدأ لا يتلوّن، ورؤية لا تُباع ولا تُشترى.
كنت دائمًا أُحدث أولادي عنه، عن أستاذٍ علّمني ما هو الشرف في الكلمة، وما هو الوفاء في الموقف، وما هي الأصالة في الصحافة.
كنت أحكي لهم عن ذلك الرجل الذي بقي على الوعد، وبقي على العهد، حتى آخر نفس فيه.
وبقي صوته حين يقول كلمةً صادقة، لا يريد بها شيئًا سوى الخير.
وبقيت أنا، أكتب عنه الآن، لأن الوفاء له دين في عنقي لن يُسدَّد مهما كتبت.
نمْ بسلام يا أبا حامد،
ستبقى قامةً في تاريخنا، وأخًا كبيرًا في وجداننا،
وعلّمتنا أن الكلمة لا تموت… إذا كُتبت بنُبل.