عروبة الإخباري –
في ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة في الشرق الأوسط، لم يعد من المجدي الاستمرار في مقاربة التطورات الإقليمية بمنطق الانفعالات أو التحليلات الرغائبية التي تنبع من أمنيات أو مزاج إعلامي، وليس من تقدير دقيق لموازين القوى، فالعالم لا يُدار بالأمنيات، ولا تُبنى السياسات على مشاعر الغضب أو الرضا، بل على حسابات المصالح، القوة، والتكتيك طويل النفس.
لقد أظهرت السنوات الأخيرة — وخاصة منذ عام 2011 — أن إيران و”إسرائيل” (بغض النظر عن التوصيفات الأيديولوجية) أصبحتا قوتين إقليميتين فاعلتين، تمتلكان القدرة على التأثير، فرض الأمر الواقع، وصياغة ملامح النظام الإقليمي الجديد، كلٌّ وفق أجندته وأدواته، فلا الحديث عن “انتصار محور المقاومة”، ولا التهليل لـ”هشاشة الجبهة الإيرانية”، يغير من حقيقة أن الطرفين يمتلكان أوراقًا تُجبر القوى الكبرى على الإصغاء لهما، والجلوس معهما على طاولات التفاوض حول مصير المنطقة.
في المقابل، يتبدى المشهد العربي — مع بعض الاستثناءات — كحالة من التيه الاستراتيجي، يطغى فيها التعلق بالاصطفافات الخارجية، أو الرهان على تحولات خارج الإرادة الذاتية، بدلاً من بناء مشروع عربي مستقل وقادر على التأثير. الإعلام العربي، في جزء كبير منه، لا يزال أسير خطاب تعبوي انفعالي، يحتفي حينًا بضعف طرف، ويهتف حينًا آخر لصعود آخر، دون أن يلتفت إلى أن المشهد أعمق بكثير من هذه الثنائيات السطحية.
التحليل الرغائبي — الذي تتبناه بعض المنصات الإعلامية — لم يعد منتجًا ولا مؤثرًا. فالجمهور العربي لم يعد يصدق روايات النصر السهل أو الهزيمة الحتمية للخصوم. الشعوب باتت أكثر وعيًا، وتدرك أن من لا يمتلك القوة لن يفرض شروطه، وأن من ينتظر أن ترسم القوى الإقليمية والدولية له خريطة مصالحه، سيجد نفسه خارج الحسابات، لا ضامنًا لأي دور أو مكسب.
المنطقة يعاد رسمها الآن، ومَن لا يجلس على الطاولة، سيكون على قائمة الانتظار.
إزاء هذا الواقع، لا خيار أمام العرب سوى أن يتحلّوا بالعقل، الواقعية، والبراغماتية. عليهم أن يتجاوزوا منطق الشعارات، وأن يدركوا أن الصراعات المعقدة لا تُخاض بالنيّات، بل بالاستعداد والقدرة والمشروع. كما أن القوة لا تعني بالضرورة عسكرة المواقف، بل تشمل امتلاك أدوات التأثير: الاقتصاد، النفوذ السياسي، التكنولوجيا، والشبكات الإقليمية والدولية.
ليس من الواقعية أن ننتظر هزيمة إيران حتى نشعر بالأمان، ولا أن نعوّل على زوال “الكيان” حتى نستعيد توازننا. علينا أن نبدأ من أنفسنا، من عمقنا العربي، من بناء تحالفات عقلانية قائمة على المصالح المشتركة لا على الأوهام.
إن المنطقة على أعتاب مرحلة جديدة، وإما أن يدخلها العرب فاعلين، أو يبقوا متفرجين على خرائط ترسم بلاهم.
العرب بين الواقع الإقليمي ومتاهة التحليل الرغائبي* الدكتور محمد أبو هديب
9