عروبة الإخباري –
اندبندنت عربية – هلا الخطيب كريم –
يبدو أن ديكور واجهات المحلات الفاخرة يعيش حالة تأمل أو خجل… فبدل أن يبهرنا، بات يختبئ. واجهات من زجاج معتم، ألوان حيادية حد التبخر، لافتات بلا أسماء أحياناً، وصمت بصري متعمد. نحتار ما إذا وراء هذا الجدار الجديد محلات أم متاحف مغلقة؟ هل نحتاج دعوة سرية للدخول؟ أم أن الفخامة قررت أن تكون هامسة أو من دون صوت؟
هي موضة جديدة في تصميم الواجهات، تختصر كثيراً من القول، وتتركك تتساءل: أين ذهب البريق؟ ولماذا بات كل شيء مخفياً؟ ربما لأن الواجهة لم تعد لعرض البضاعة، بل لاختبار حشرية المارين.
فلسفة “البساطة المدروسة”
كانت الواجهات حتى وقت قريب تزدحم بكل ما يلفت الأنظار من ألوان صارخة وإنارة فنية، وعارضات يلبسن كل فترة زيّاً مختلفاً، وعبارات ترويجية تهمس وتصرخ في آن. كانت واجهات المحلات كأنها تنادي المارة “ادخلوا وشاهدوا المزيد”.
تراجع كل هذا التزاحم البصري إلى الكواليس، وكأن الواجهة قررت أن تستريح ربما أو تتحدى فضولنا كأنها تقول “إن أردت أن ترى فادخل”.
وقد يكون الأمر مجرد مجاراة لأسلوب أو ترند الـMinimal أو “البساطة المدروسة”، وهي ليست مجرد ذوق بصري، بل فلسفة كاملة تسللت حرفياً بهدوء إلى كل شيء. من الموضة والتصميم الداخلي، إلى واجهات المحلات الفاخرة. هذا التوجه الذي يحتفي بالفراغ، ويقدس الصمت البصري، بدأ يفرض حضوره على أكثر المساحات ازدحاماً، الواجهات التجارية. تلك التي كانت تعمل كمنصة إعلان، ومكان لإغراء العابرين بأقصى ما يمكن من الألوان والمنتجات والتفاصيل. وفي تطبيق فلسفة الـMinimal على واجهات المحلات، نجد مفارقة لافتة، إنه كلما قل ما نراه، زاد فضولنا. كلما اختفت التفاصيل، ازداد الإحساس بالرقي والخصوصية. فالمحلات الفاخرة لم تعد تصارع لنيل الانتباه. بمعنى آخر أن الواجهة لم تعد لإقناع الجميع، بل لاصطياد النخبة التي تفهم الرسالة من دون أن تقال.
مراكز التسوق في لبنان
منذ سنوات تحولت مراكز للتسوق في واجهتها الرئيسية إلى تحفة فنية حديثة تخفي وراءها كل المحال التجارية والمقاهي، ومثلها الأبنية التي صممت على طريقة الهندسة التفكيكية التي عرفت بها المهندسة العراقية البريطانية الراحلة زها حديد التي صمم مكتبها عدداً من العمارات التجارية يحتل فيها الديكور الغريب دور البطولة. مثال أيضاً على هذا الأسلوب مبنى “أيشتي” الذي صممه مكتب المهندس البريطاني ديفيد إديجي بواجهة حديدية حمراء على شكل صندوق مائل، وأسواق بيروت التي صممها المهندس الإسباني رفاييل مونيو في الجزء الجنوبي وزها حديد في الجزء الشمالي.. وأخيراً مبنى غاليري متى الذي انتهج نفس الأسلوب في إخفاء الواجهات وراء عناصر الديكور القوية. إضافة إلى مبانٍ أخرى لا يعرف ما فيها إلا قاصدوها.
لوي فيتون في صندوق
ولقد اختار دار الأزياء العالمي Louis Vuitton أن يحول ورشة ترميم متجره الرئيسي في نيويورك إلى عمل فني ضخم يخفي أكثر مما يفصح، لكنه لا يقل فخامة عما يخفيه. فخلال فترة التجديد التي تمتد لسنوات، غطت الدار واجهة المتجر بتركيبة معمارية تشبه مجموعة من صناديق السفر الرمادية الأيقونية للعلامة التجارية، لتبدو الواجهة وكأنها صندوق سفر عملاق في قلب المدينة. ومثله متجر العلامة في العاصمة الفرنسية باريس في شارع الشانزليزيه.
هذا الغلاف الهندسي مستوحى من قماش “تريانون” الرمادي التاريخي، ويزدان بتفاصيل دقيقة كالأقفال والمقابض والمسامير المعدنية المطلية بالكروم. ليس مجرد ديكور، بل استنساخ دقيق باستخدام مسح ثلاثي الأبعاد لصناديق سفر حقيقية من أرشيف الدار، تتخلله 840 مسماراً منقوشاً باسم الماركة.
علامات تجارية سباقة
ولم تعد واجهة المتجر مجرد مساحة للعرض، بل أصبحت اليوم أداة اتصال بصري ومفاهيمي بين العلامة التجارية وجمهورها. وفي السنوات الأخيرة، تبنّت العديد من دور الأزياء والعلامات الفاخرة هذا التحول، لتبدأ بإخفاء البضائع والتركيز على خلق “لحظة جذب” قائمة على الغموض والدهشة.
وفي ميامي، اختارت دار Dior واجهة تشبه قصيدة مطوية على جدار. طبقات بيضاء تشبه الثنيات، تنفتح بخجل على فتحات ضيقة لا تكشف الكثير. لا ترى شيئاً، ولكنك تشعر بكل شيء. حيث لا عرض للمنتجات، ولا ألوان لافتة، كأن الدار لا يفصح عما يحتويه إلا لمن يدخله.
وفي اليابان، أطلت Miu Miu في طوكيو بواجهة من معدن وزجاج، مائلة بزاوية تبدو كأنها تخفي سراً صغيراً. فالضوء يتسلل إلى الداخل، لكنك لا ترى من الخارج سوى ومضات، تشبه لمحة من عرض أزياء مغلق من دون شعارات ولا عروض.
كما أخذت Balenciaga الأمور إلى بُعد آخر، بخاصة في فروعها التي افتتحت بعد 2019. التي كانت عبارة عن واجهات سوداء، بإضاءة خافتة، وتصاميم داخلية تشبه مواقع التصوير أو المسارح الغامضة. فالمتجر في لندن كان يبدو من الخارج وكأنه مبنى مهجور أو معرض فني غامض. على قاعدة “نحن لا نبيع قطع أزياء فحسب، بل نبيع تجربة كاملة… والمفاجأة جزء أساسي منها”.
وفي خطوة لافتة عام 2021، قررت Bottega Veneta حذف جميع حساباتها من منصات التواصل الاجتماعي. وأثارت هذه الاستراتيجية الغريبة جدلاً واسعاً، لكن خلفها كانت الرؤية أنه في عالم يضج بالضوضاء الرقمية، يصبح الصمت أداة للتفرد. وركزت العلامة حينها على تجارب حصرية داخل المتاجر، وواجهات بتصاميم مستوحاة من معارض الفن المعاصر. حيث قالت إدارة العلامة “نحن لا نروج لأنفسنا، بل نسمح للناس بأن يأتوا إلينا حين يكونون مستعدين لذلك”.
وعلى رغم كونها علامة تكنولوجية، إلا أن فلسفة متاجر Apple تقترب كثيراً من المنهج الذي تتبعه دور الأزياء، فلسفة المينمال. واجهات زجاجية شفافة، خالية من المنتجات تماماً، بينما التصميم الداخلي يتحدث عن الفكرة، حيث أن المستخدم لا يأتي ليرى منتجاً، بل ليعيش تجربة، ويلمس جودة التصميم قبل أن يقرر الشراء.
المفارقة أن هذا التوجه جعل هذه المتاجر وجهات سياحية بحد ذاتها، حيث يأتي الزبائن لتجربة المكان كما لو كانوا يزورون معلماً ثقافياً أو عملاً فنياً.
الارتباط العاطفي بالعلامة
بدأ هذا الاتجاه بالتبلور بعد عام 2015، مع نضج الثقافة الرقمية وظهور مؤثرين جدد في عالم التسويق. ومع انتشار جائحة كورونا عام 2020، تسارع التحول، حيث بدأت العلامات الفاخرة تعتبر أن استهلاك المنتجات لم يعد كافياً، والمطلوب هو استهلاك التجربة.
وفي تقرير نشرته Forbes Luxury Retail عام 2022، تبين أن أكثر من 40 في المئة من العلامات الفاخرة الكبرى أعادت تصميم واجهات متاجرها لتكون أكثر غموضاً وأقل عرضاً مباشراً. هذا التوجه لم يعد فقط لتقليل التكاليف أو التماشي مع الموضة، إنما لخلق علاقة نفسية مع المستهلك تقوم على الفضول والرغبة في الاكتشاف.
هذا الغموض في التصميم يحمل في طياته رسائل للزبون مفادها بأن العلامة لا تحتاج إلى لفت نظرك، لأنها تثق في ذوقك، أو لن تقوم بعرض ما لديها، تعال وابحث بنفسك. أو أن منتجاتها ليست للجميع، إنما لمن يفهمها أو يقدرها. هذا النوع من الرسائل من شأنها أن تخلق شعور التميز والانتماء لدى المستهلك، وما يعرف في علم التسويق بـ”الارتباط العاطفي بالعلامة”، وهي أعلى مراحل الولاء للعلامة.
رفاهية الخصوصية
في سياق منفصل، وفي عالم يخضع فيه المستهلك للمراقبة ويطارَد بالإعلانات في كل لحظة، أصبحت الخصوصية مطلباً نخبوياً وجزءاً من تعريف الرفاهية. فالعلامات الفاخرة التي تبنت واجهات غامضة لم تفعل ذلك فقط لأسباب فنية أو نفسية، بل لأنها تدرك أن زبائنها أصبحوا يقدّرون الهدوء والاختباء أكثر من البهرجة.
فحين يدخل الزبون متجراً بواجهة مغلقة أو غير شفافة، يشعر وكأنه عبر إلى عالم خاص. والمساحات الداخلية فيه فسيحة وهادئة، ومحاطة بإضاءة خافتة، مع عدد محدود من الزوار في كل مرة، واهتمام خاص بكل زبون. ما يخلق بيئة تمنح الزبون شعوراً بأنه مدعو شخصياً بعيداً من صخب المراكز التجارية المزدحمة. حتى أن بعض المتاجر الفاخرة تمنع التصوير ما يعطي الزبون شعوراً بالراحة والثقة، بخاصة إذا كان من المشاهير الذين تصطادهم الكاميرات حيثما تواجدوا.
وعن هذا الموضوع قالت المديرة التنفيذية لمؤسسة “أورا بلوكتشين كونسورتيوم” دانييللا أوت التي تعمل لعدد من العلامات التجارية مثل برادا ولوي فيتون إن الزبون الفاخر اليوم لا يبحث عن الانتباه، بل عن الراحة والخصوصية. والمتجر لم يعد فقط مكاناً للبيع، بل مساحة آمنة للانفصال الموقت عن العالم.
الغموض المدروس
في حديثها لـ”اندبندنت عربية”، رأت مهندسة الديكور باسكال حرب أن التحول في تصميم واجهات المحلات الفاخرة خلال السنوات الأخيرة ليس مجرد موجة عابرة، بل نتيجة مباشرة لمجموعة من العوامل المتداخلة، أبرزها التغييرات التي أعقبت جائحة كورونا، من أزمات اقتصادية وصحية أثرت في سلوك الأفراد، إلى تحوّلات في مفهوم التسوّق والعلاقة مع المساحات. فبعد فترات العزل والتغيير القسري في العادات، بات الإنسان بحاجة إلى تجارب بصرية ونفسية مختلفة تعيد له الإحساس بالاكتشاف والتجديد.
أشارت حرب إلى أن الغموض الذي بات يطغى على واجهات المحلات ليس مجرد خيار جمالي، بل استراتيجية تسويقية مدروسة تعتمد على تحفيز الفضول. فعندما لا يرى الزبون ما يُعرض، تزداد رغبته في الدخول واكتشاف ما خلف الواجهة، وهو ما يعرف بالتسويق النفسي القائم على استثارة الحواس والدوافع غير المباشرة. فبدلاً من الإعلان الصريح، باتت الواجهة تلعب دور “الدعوة الصامتة”.
الواجهة كأداة ذكية
هذا التحوّل مرتبط أيضاً بتغيّر سلوك المستهلك، حيث بات العديد من الأشخاص يعانون من إدمان التسوق، ما دفع العلامات التجارية إلى التركيز على خلق تجربة حسية داخل المتجر، باستخدام الإضاءة، والموسيقى، والمواد الطبيعية، بدلاً من عرض كل شيء من الخارج. فلم تعد الواجهة كافية، بل أصبح المطلوب هو خلق بيئة داخلية تحفز الزائر على الاستمتاع والبقاء لأطول فترة ممكنة. فجاء التصميم الداخلي الأنيق، والإضاءة المدروسة، والموسيقى الراقية، وحتى العطور المختارة بعناية وعن قصد كلها عناصر تدخل في صناعة “مزاج الشراء”.
وأضافت حرب أن التسويق الرقمي لعب دوراً كبيراً في تقليص أهمية الواجهة كمنصة عرض تقليدية. فاليوم، تعرض المنتجات عبر مواقع الإنترنت والمؤثرين، بينما تخصص الواجهة لعرض الهوية البصرية للعلامة بأسلوب فني مفاهيمي. ومع الأزمات الاقتصادية، أصبح من المجدي اقتصادياً الاستثمار في واجهات ثابتة وغير متغيرة، تقلّل من التكاليف التشغيلية على المدى الطويل.
وأوضحت أن هذه التغطيات الغامضة تستخدم أيضاً لتوجيه الإضاءة والتحكم بدرجة حرارة المكان، كما يمكن أن تخدم في إخفاء عناصر معمارية لا تليق بالهوية البصرية للعلامة. فهي ليست مجرد حيلة تصميمية، بل أداة هندسية واقتصادية في آن.
بين فلسفة العرض وعيش التجربة
تتحدث حرب عن نظريات تسويقية عديدة تقف وراء الغموض في العرض أولها التسويق الحسي الذي يركز على خلق تجربة شاملة من خلال الصوت والضوء واللون، وحتى الروائح لجذب المستهلك والتأثير على قرار الشراء لديه. ويأتي بعدها مبدأ الندرة أو الإيحاء بها، حيث كلما قلت المعلومات أو انحجبت البضائع، شعر المستهلك بالحصرية وزادت رغبته في الاكتشاف والشراء. إضافة إلى التصميم المفاهيمي حيث تتعامل بعض العلامات التجارية مع واجهتها كقطعة فنية تروي قصة، لا كمنفذ بيع تقليدي. كأنها تقول لا داعٍ لعرض البضائع فهي معروفة بجودتها وفرادتها. هذا التحول نحو واجهات غامضة لم يعد يعتبر مجرد صيحة موقتة، بل انعكاس لتطور أعمق في فلسفة البيع والتواصل مع المستهلك. ويبدو أنه مع استمرار تطور الذكاء الاصطناعي، وظهور تقنيات العرض ثلاثي الأبعاد، من المتوقع أن نشهد واجهات تفاعلية تتجاوز الجدران، وتخاطب الزائر قبل حتى أن يقرر الدخول.
هوية مبتكرة بدل التقليد
وأضافت “لمرة جديدة نثبت أننا من خلال الهندسة والفن والابتكار نعالج إشكاليات باستغلال المتوافر وابتكار أساليب جديدة تجيب على متطلبات الحال الواقع. وكل فترة هناك موضة جديدة تخلق من خلال إشكالية معينة في مشروع معين، قد يلاقي استحساناً أكبر من مجرد نجاح مشروع وسرعة انتشاره من خلال الإنترنت، فيصبح ترند. إلا أنه من المحبذ أن يلجأ كل صاحب مشروع إلى ابتكار هوية خاصة لمشروعه باستشارة المختصين في هذا المجال بدل اتباع السائد. فربما يكون مشروعه هو الرائد المُتبع. ولا ننسى أن لكل فترة موضتها. ولا بد من العودة بين الحين والآخر إلى الوراء وتجديده. ولا بد للإنسان العودة دائماً إلى حواسه بدءاً بالنظر واللمس في التسوق، والعودة إلى العرض بعد فترة من التسوق الرقمي والمنافسة، بخاصة أن للتسوق متعة غير موجودة على الصفحات التجارية الإلكترونية إضافة إلى تبعيات استهلاكية أخرى”.