ليست نهاية العالم أن تُمحى حدود دولة، لكن نهاية العالم أن تموت فكرة الوطن تحت سطح البحر !
في أقصى جنوب المحيط الهادئ، هناك بقعة تدعى توفالو، ليست دولة كبيرة ولا قوية، ليس فيها اقتصاد يتصدر عناوين الأسواق، ولا جيوش تستعرض عضلاتها على الشاشات. لكنها وطن ؟
والمأساة أن الأوطان لا تحتاج إلى أكثر من مترين من الغرق كي تختفي من الخرائط وتُطمر من الذاكرة، توفالو، بثماني جزرها المرجانية، لم تخسر الحرب ولم تُحتل ولم تنهَر سياسياً لكنها ستخسر معركتها مع الماء، لأن العالم ارتكب خطيئة الاحترار المناخي، ثم أنكرها، ثم تجاهلها، ثم اعتذر عنها في مؤتمرات لا تمنع الماء من الصعود .!
الغريب في قصة توفالو ليس الغرق، بل ما بعده حين قررت الدولة أن لا تموت أو على الأقل، أن لا تختفي كلياً، وانتهجت النهاية الأغرب، فعلت ما لم يفعله البشر من قبل: أعلنت نفسها أمة لاجئة رقمية.
في عام 2022، وقف وزير العدل والاتصالات من فوق أرض مهددة بالذوبان، وقال للعالم: إذا كنا سنفقد أرضنا، فلن نفقد هويتنا، كانت تلك الجملة إعلان ولادة مشروع لا يشبه شيئاً مما عهدته الجغرافيا..!
دولة بلا تراب، حكومة بلا مبانٍ وشعب بلا سواحل، نقلوا معابدهم، مكاتبهم، تراثهم، وحتى أشجار النخيل الافتراضية، إلى نسخة رقمية متكاملة من توفالو داخل (الميتافيرس)، ذلك العالم الموازي الذي يُبنى بالكود لا بالطين، وتُحرس حدوده بجدران خوارزمية لا بثكنات عسكرية.
وهكذا، ولأول مرة في التاريخ البشري، دخلنا عصر (الدولة الخوارزمية) توفالو لم تعد فقط ضحية المناخ، بل أصبحت تجربة وجودية تُجبر العالم على إعادة تعريف مفاهيم مثل السيادة، والهوية، والمكان.
هل يُمكن أن تكون الدولة ذاكرة؟
هل يمكن للوطن أن يستمر حتى لو اختفى من الطبيعة؟
هل يمكن لشعب أن يعيش في اللجوء الرقمي دون أن يُمحى من الوعي؟
أسئلة لم تطرحها الحروب الكبرى ولا النكبات القديمة لكنها خرجت من رمال البحر الزاحف نحو توفالو كأنها نبوءة متأخرة.
لم تسعَ توفالو لإثارة الشفقة، بل لإثبات البقاء. دولة صغيرة من 12 ألف نسمة وضعت العالم أمام مرآته: هذه ليست نهاية جزيرة، هذه بداية عصر، حيث تتحول الدول إلى بيانات، والحكومات إلى منصات، والبشر إلى عقودٍ رقمية مهاجرة.
لكن المأساة لا تزال حاضرة. لأن النسخة الرقمية، مهما كانت مذهلة، لا تشبه صوت الموج الحقيقي، ولا نكهة الموز المزروع في التربة الملحية. النسخة الرقمية لا تصاب بالملاريا، لكنها أيضاً لا ترقص تحت المطر.
إنها محاكاة للحياة، لا الحياة نفسها، والمفارقة أن الأرض التي دُفنت لم تُدفن بالحرب، بل بالصمت.
صمت العالم، صمت السياسة، صمت العدالة المناخية، صمت الغرق، توفالو لم تطلب المستحيل. لم تطالب بقمم ولا مصانع ولا قنابل نووية. طلبت فقط أن تبقى. أن تعيش. أن تتنفس. لكنها وُوجهت بالتقارير والتوصيات والوعود المؤجلة. في الوقت الذي كانت فيه المياه تزحف على القرى، كان قادة العالم يختلفون على الفاصلة في اتفاقيات باريس.
لقد دخلت توفالو التاريخ لا بوصفها الدولة الأولى التي تختفي، بل الدولة الأولى التي رفضت أن تموت كما يريد لها العالم.
وربما، ذات يوم، حين يغرق آخر جبل جليدي، وتصبح المدن العظمى شواطئ بلا أبراج، سيقول المؤرخون إن توفالو كانت الإنذار الذي لم يُسمع وأن الأمة التي تحولت إلى رقم كانت آخر الأمم التي قاومت.
في ذلك المستقبل، ربما تصبح فكرة الوطن شيئاً يُحمّل من الإنترنت، ويحفظ في الذاكرة السحابية وربما لن ينجو إلا من فهم أن (الخريطة ليست الأرض)، وأن الانتماء لا يُقاس بالمساحة، بل بالإصرار على ألا تموت الحكاية.
توفالو لم تكن مجرد أرخبيل. كانت مرآة، وربما نحن من يغرق الآن فقط، لأننا لم نرَ الماء وهو يصعد !