كتب سلطان الحطاب
في السنوات الصعبة من حياة الأردنيين، حيث سنوات الجوع والقحط والمعاناة واستمرار الحرب العالمية الثانية التي بدأت عام 1939.
كتب رجل من السلط من عشيرة الحيارات، برقية للأمير عبد الله الأول آنذاك يحتج فيها على آخذ شركة “ستيل” الانجليزية، القمح الأردني للجنود والحرس للحلفاء، وترك الكثير من الناس جياعاً لا يلون على شيء.
وجاءت البرقية التي روى نصها لي الراحل حكمت مهيار، الذي كان مديراً للشرطة، وقد كنت التقيته مع صديقه الصحفي الكبير الراحل صديقي ناصر الدين النشاشيبي، في فندق الأردن حيث كان ينزل ناصر، وكانت جلسة ممتعة، تذكر فيها الصديقان الزميلان اللذان خدما مع الأمير عبد الله.
وكانت القصة التي استمعت اليها ورأيت نص برقياتها التي اطلعني عليها حكمت مهيار بحضور ناصر، دون أن يسمح لي بتصوريها ولا اقتنائها.
يقول: جاءت برقية الى الامير عبد الله الأول، الملك عبد الله لاحقاً، فيما بعد، نصها: شبح المجاعة يخيم على البلاد، وانتم تعطون القمح لشركة ستيل الانجليزية، وأطفالنا يتضورون جوعاً، هلا رحمتمونا وتركتم لنا شيئاً نعيش به؟ ووقع الرجل إسمه دون إخفاء، (حياصات).
وقعت البرقية على الأمير وقوع الصاعقة، وغضب غضباً شديداً، كما يروي ناصر الدين النشاشيبي آنذاك، وقد كان ترجمان الملك ورئيس تشرفياته، يقول ناداني الملك بلهجة بدوية قائلاً، يا ناصرَ الدين (فتحة على الراء) فحضرت وقلت نعم يا سيدي وتاج رأسي، هكا يقول ناصر كنت اخاطبه، ومددت يدي أسلم عليه، فمد يده مقلوبة، أي باسطها كفها للأعلى تعبيراً على الغضب، ثم قال اجلس، أكتب اليه إنه لا يحترم مقامنا!
يقول ناصر، جلست أمامه على الطاولت وانتظرت أن يملي عليّ ما يريد، فقال، نحن عبد الله الأول: شبح المجاعة لا يخيم على البلاد ونحن لا نعطي القمح لشركة ستيل البريطانية، لا أشبع الله لك بطناً ولا بل لك ريقاً، وانت تشكك في موقفنا، سنبقى دائماً على حياة شعبنا رغم قسوة الحياة وظروف الحرب، وبعد أن فرغت من الكتابة، يقول ناصر الدين، قال خذها، اليه، أي لم أرسل البرقية، فنظر الى حكمت الذي أمره الملك أن يذهب معي اليه لإحضاره ليعاقب
كان علينا ان نتصل بالسلط وقد حاولت كثيراً، ولكن التلفونات القديمة بالمانويلا، حيث يدار القرص المربوط بحبل عدة مرات وسط صراخ عالي ليجيبنا المقسم ثم يذهب من هو على المقسم لمناداة الرجل والبحث عنه، إذ لم تكن التلفونات متاحة على المستوى الشخصي الاّ القليل من الناس وبعض الدوائر الرسمية
كان ناظر الداخلية (وزير) هو سمير الرفاعي، جد الرئيس سمير الرفاعي الحالي، فاستأذناه ولم يكن هناك الاّ سيارتي، فقط فأخذناهما وخرجنا الى السلط بعد ان عجزنا عن الاتصار، ووصلنا الى البلدلية وسألنا هناك عن الرجل، فقيل إنه موجود خارج السلط (مغرب) في مقثاة له في العارضة، والدنيا صيف وحرّ ومن عادة الفلاحين أن يخرجوا الى مزارعهم ليقيموا فيها في الصيف الى ان تنتهي ويعودوا
يقول ناصر كما روى لي بحضور مهيار، ظللنا نسير ونسأل، ووصلنا منطقة العارضة وصعدنا الى (البطين) لم تكن الشوارع معبدة، حتى اشرفنا الى مقثاة فيها (خربوش) مثل بيت الشعر مصنوع من كياس الخيش
حين وصلنا وجدنا رجلا ينام على ظهره، على الأرض، وأمام الخربوش طفلاً، من مختلف الأعمار، يلعبون في صخب، فاقتربت يقول ناصر، وسألت الرجل، هل انت فلان؟ قال نعم، قال، هل أرسلت برقية للأمير عبد الله؟ فقال نعم، فقال له كيف تفعل ذلك وبهذه اللغة التي ضايقت الأمير، فقال الرجل ماذا أفعل؟ أقسم بالله أن هؤلاء الأطفال منذ خمس أيام لم يذوقوا طعم الخبز وأنهم يعيشون على أوراق الشتل وقليل من ثمار الكوسا والخيار، وهم أولادي واولاد أخي المتوفي، ولا يوجد لهم معيل ونحن نقيم هنا، فما نفعل؟ نعم أرسلت البرقية
يقول ناصر، نظرت الى الباشا مهيار، وقلت كيف ناخذه للأمير وهو على هذه الحال، يغرق في التراب ولا يلبس ثوباً نظيفاً ولديه كل هؤلاء الاطفال المسؤول عنهم، ما رأيك أن تذهب به بدونه ونشرح حالته ونجد له عذراً
فوافق مهيار وعدنا، ودخلنا على الامير الذي كان ينتظر وما زال غاضباً، ففاجأنا بالقول، أين الرجل؟ قال ناصر، قلت له يا سيدي ويا تاج رأسي، أسمح أن أقول وابين حالته، فشرحت للأمير الوضع كما رأيته، وقلت لم يكن مناسباً أن نأتي به وهو على هذه الحال وأن نترك أطفاله وأطفال اخيه الايتام، أنه حالته بائسة جداً
ظلمناه وكررها ثلاث مرات وصمت، قال: اجلس يا ناصر، وأكتب، نحن عبد الله الأول، أمرنا ل السيد حياصات، بأن يُعطى رطلاً من الخبز على حساب البلدية يومياً، وقال خذ هذه يا ناصر واذهبوا سلموها للبلدية وتأكدوا من إنفاذ ما طلبت
تأثرت بالقصة وعدت الى مكتبي من فندق الأردن، وذهبت أطلع على أوراق اخرى
عند حكمت مهيار وفي بيته وفي المساء، وجدت من الضروري أن أكتب عمود في الرأي عن هذه الحادثة، وقد كان ذلك في عهد الملك الحسين في التسعينات
كنت متأثراً وكتبت تحت في الرأي “لقد أسمعت لو ناديت حياً، وقلت إنه زمن الفاكس والتلفون وبرنامج (البث المباشر) برنامج قديم في الاذاعة الأردنية، فإن الرسائل لا تصل في حين كانت تصل قبل ذلك في زمن عبد الله الأول وتجد لها حلاً، وختمت المقال بالربط بين الأمس واليوم
نشر المقال بعد أن أوقفه أبو عزمي محمود الكايد، بالقلم الأخضر لاتأكد أنه سينشر، وبعد يوك من النشر طلبني الديوان، وقابلت الملك الحسين، وقال لي، أشكرك فقد جعلت الملك عبد الله أفضل مني واكثر خدمة وحبة للناس، وهو الذي لا اقل من أحدا ان يكون افضل مني غيره، فاحرجت، فقال لا أنك كتبت ما تستحق عليه الشكر فجدي احسن مني، وقال لقد نبهتني لأشياء مهمة، استمر بكتابتك بصدق كما فعلت ولا تخشى شيئاً ولك مني على ذلك أن اقرأك وعليك أن تكتب ما تؤمن به وتعتقد كما فعلت
شكرني واعطاني رقم هاتف خاص لاتصل عند الضرورة، وخرجت وما زلت اتذكر تلك الواقعة التي حكاها الراحل مهيار، وما زلت أذكرردة فعل الملك الحسين على ما كتبت وقد أحسست بفخر على ما كنا فيه من حرية التعبير ومن قرب مع قائد البلاد، انه الملك الحسين، وانهم الهاشميون الذين ظلوا يؤمنون دائماً أن الرجوع الى الحق خير من التجاري في الباطل وانهم لم تأخذهم في العدل لومة لائم.
الملك عبد الله الأول.. لقد ظلمناه
9