كتب سلطان الحطاب –
خطاب الملك أمام البرلمان الأوروبي وثيقة هامة، تستند الى رؤيته لحالة الشرق الأوسط، وكل المفردات النازفة فيه، فقد كتب الملك من خلال بصر وبصيرة “روشيتة” للمرض وما طرحه أمام ممثلو برلمانات أوروبا من برلمانيين، وهم بالضروروة المكون للجزء الأكثر حيوية في العالم.
اعتمد الملك في اثارة تفكير مستمعيه النواب الأوروبيين في ستراسبورغ، على طرح الاسئلة والاشارة الى المسكوت عنه بالتحذير مما يجري ويسكت عليه حتى يتفاقم، فقد كانت العرب تقول (داو جرحك قبل أن يتسع)، والملك يقدم درساً في السياسة، يعتمد رواية واقعية وفلسطينية، تعكسهما أسئلة المصير لشبان وشابات، فقدوا الأمل، وأمهات فقدن امكانية توفير المسكن والطعام لاطفالهن وأباء لم يعودوا قادرين على توفير لقمة العيش لعائلاتهم.
رسم الملك لوحة بخطوط فسفورية، عل من لا يبصر، يبصر، ومن لا يدرك، يدرك، حذر من تعويم حل الدولتين وادارة الظهر له، وترك اسرائيل تتمع واهمة بالدولة الواحدة، التي تمكنها من اضطهاد الشعب الآخر وممارسة كل أشكال العنف والهروب من أي فرصة سلام أو انصهار في المنطقة او تقديم طلب للقبول بالعيش فيها.
ويرى الملك عبد الله الثاني، أن أعمق جرح في المنطقة وتقديم طلب للعيش فيها، ويرى الملك عبد الله الثاني، أن اعمق جرح في المنطقة، هو أن يتخلى العالم عن حل الدولتين لانهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وان تبقى هذه القضية نازفة تستقطب التوترات والصراعات، والعنصرية والتمييز، وتؤدي بأمال الشعوب في المنطقة وأحلامها.
كان الملك شجاعاً، وهو يشخص المشاكل ويضع النقاط على الحروف وسماعة الطبيب حيث يجب معرفة النبض، وكان في كل المراحل التي يقدم فيها للتشخيص يحظى بالاعجاب والتصفيق، فهذا الكلام الانساني القيمي لم تعد أوروبا التي تحشر في الزوايا بفعل سياسات التجاذب والهيمنة، لم تعد تسمعه منذ زمن، ولذا صفقت للكلام الملكي حد الوقوف، حماسة له وتقديراً لكل ما جاء فيه.
الاسئلة والتساؤلات الملكية كانت واضحة وقادمة من الواقع وما زالت معلقة لم تعرب جملها ولم تبلغ الشجاعة بقادة العالم وشعوبه وأصحاب القيم والمبادئ والانسانية فيه للتصدي لها والاجابة عليها.
وزع الملك الاسئلة على القاعة، وكان يرى لهفة الأوروبيين لمثل هذا الكلام، وهذا ما شجعه على المضي بفخر واعتزاز بعد خمس سنوات من لقاء سابق حيث جرت مياه كثيرة من تحت الجسر وحيث يجري جرف ثوابت عالمية ودولية واذابة هويات الشعوب وخلق صراعات مفتعلة من الايديولوجيا الجديدة ووجهات النظر الحادة.
كانت تساؤلات الملك، مدوية، وهو يرى العراق ويقول ماذا لو فشل العراق في تحقيق تطلعات شعبه والاستثمار في امكانياته، وانزلق مرة أخرى الى حلقة مفرغة حيث سبعة عشر عاما من الانتعاش ثم الانتكاس.
الحضور، أخذوا جرعات من ماء الزجاجات من أمامهم وكأنهم يسمعون بمرض العراق لأول مرة، ثم جاء التساؤل الثاني المؤلم، ماذا لو بقيت سوريا رهينة للصراعات بين القوى العالمية وانزلقت مرة أخرى في الصراع الأهلي، وماذا لو شهدنا عودة داعش الإرهابي.
كانت الصورة التي قدمها الملك، كما لو أنه يرسم حقل الغام لا يدرك أحد خطورته وهناك من لم ينتبه ويرغب في اعادة عبوره.
سوريا في حالة من النقاهة ما زالت على سرير المرض بحاجة الى العلاج السريع حتى لا تتفاقم أمراضها، فالأزمة.. لم تنته، وما زال النزوح قائماً وأهلها لم يعودوا من المنافي، ثم زادهم الملك، من الشعر بيتاً، في دراما وملهاة خطيرة حين قال، ماذا لو انهارت ليبيا باتجاه حرب شاملة لتصبح دولة فاشلة، ماذا لو استنسخت سوريا جديدة، وتزداد خطورتها كونها جارة أوروبا التي ستنتشر فيها شظايا الانفجار الليبي، إن لم يجر تفكيك القنبلة الليبية بحكمة وحذر.
وسؤال الخاتمة الصعب، ماذا لو فشلت الحكومات العربية في توفير 60 ألف فرصة عمل (وظيفة) يحتاجها شبابها خلال العقد القادم، والسؤال (مازالوا) ما زال يعتقد أنها لم تفشل بعد، في حين أن أعراض الفشل قائمة ما لم تتدخل جراحة دولية تستأصل المشاكل المزمنة،
الملك يحذر من غياب العلاج الذي يسبب التطرف والاستقطاب واليأس.
الملك قدم اسئلته على شكل واجب، يتطلب التكامل ليترك لاصدقائه الأوربيين أمكانيه الاجابة، والاسئلة التي طرحها هي اختبار حقيقي يتطلب الاستعداد له والنجاح فيه، والا عدنا الى المربع الأول.
الملك يبصر ولا يستعجل، وهو يأمل ويدعو الى العمل والصبر، فالسياسة عنده ليست لعبة يفوز بها الأسرع، لأن السرعة قد تنقلب الى الضد وتبعد فاعلها عن خط النهاية، فلا يصل ويصبح الحال كالمنبت الذي لا مسافة قطع ولا ظهرا أبقى.
الملك يدعو لتفكير عميق وحكمة واستشراف ويذكر بمعلمه والده الحسين، الذي أفنى عمره بنفس هذه الفلسفة من العطاء والتضحية والسلام الذي هو الطريق الأصعب والأسمى بنفس الوقت.
الملك عبد الله الثاني يستحق التصفيق والوقوف له لأنه يقدم ويشعر أن أجمل شيء في الحياة هي خدمة الآخرين، ونحن فخورون بوصول صوتنا كأردنيين وعرب وانسانيين، فما زال الملك يحمل مصباح ديوجين… وما زال يسعى ويريد أن يرى نوراً بنهاية النفق ويحمل العالم المسؤولية عن أي عجز أو تاخير.
فلم يعد هناك ترف من وقت متحقق في ربع الساعة الأخير في كثير من الصراعات التي تنتظر من يطفئها من الحكماء.