عروبة الإخباري – كلاديس متى –
رغم العواصف التي عصفت ببيت الأرز في السنوات الأخيرة، ورغم الحروب العبثيّة التي تحاول أن تغتال حلمَه، ينهض لبنان هذا الصيف كما ينهمر الضوءُ على وجه البحر، رافعًا راية الحياة في وجه الريح. فالشعب اللبنانيُّ، المجبولُ بضحكاتِ السهرة ورائحةِ القهوة، يرفض أن يكتبَ اسمه في صفحات الخراب، ويصرُّ على أن يُدوِّن تاريخَه بالحُبِّ والغناء.
موسم سياحيٌّ واعدٌ… رغم كلِّ شيء
من صيدا العتيقة إلى جبيل العابقة بالياسمين، ومن بيروت البحريّة إلى أرز الربِّ الشامخ، تعود حركة الزوّار كنبضٍ جديدٍ يُنعش شرايين البلاد. عشراتُ الآلاف من المغتربين والسياح يعبرون مطار رفيق الحريري الدوليّ كلَّ يومٍ، حاملين شغفَهم لاكتشاف الجمال الآمن، وكأنّهم يعودون إلى قصيدةٍ تركوها بلا خاتمة. الفنادق تكتسي بألوانِ الحجوزات، والمطاعم تشعل أفرانَ التنّور لتخبز خبز الضيافة، فيما ترتفع أوتار الموسيقى في المهرجانات مثل سنونواتٍ تلمس السماء.
الشعب اللبناني… عاشقٌ للحياة
هنا شعبٌ يُطاردُ الحزنَ كما تُطاردُ أشعةُ الشمس ظلَّها. في شارع الحمراء يغني عازفُ عودٍ عن بيروت التي لا تهرم، وفي الأرز يرفعُ شبّانٌ أكواب القهوة نحو قممٍ لم تُزلزلها الأعاصير. رائحةُ الزهر تتسلّلُ من حدائق صيدا، وضحكةُ طفلٍ على شاطئ صورٍ تسبق هدير الموج. لقد اختبرَ اللبنانيون مرارةَ الحروب، فصاروا أكثر عطشًا للفرح؛ يرفضون أن يكونوا خشبةً في مسرح صراعاتِ الآخرين، ولديهم من عناد الحبِّ ما يكفي ليشحذوا الحياةَ ويجعلوها أكثر لمعانًا.
جهودٌ رسميّةٌ وشعبيّةٌ تُمهِّدُ الطريق
أدركت وزارة السياحة أنَّ الحياة لا تزدهر بقراراتٍ حكوميّةٍ فقط، بل بقلوبٍ تخفقُ في الشوارع. لذا أطلقت، بالتعاون مع البلديّات والمجتمع المدنيِّ، باقاتٍ من المهرجانات والفعاليات التي توزّع النور على القرى والمدن. المغتربون بدورهم عادوا بلهفةٍ تُشبه عودتهم الأولى إلى حضنِ أمّهاتهم، حاملين بأمتعتهم أجوبةً لسؤالٍ واحد: “كيف نُعيدُ لبنانَ إلى خارطةِ البهجة؟”.
نحو اقتصادٍ ينبضُ بالحياة
تتوقّع الدراسات أن يتدفّق أكثر من ثلاثة مليارات دولار إلى شرايين الاقتصاد اللبنانيِّ هذا الصيف، رقمٌ يعيدُ الثقة إلى سوقٍ أنهكه التعب. ليس المالُ وحده ما يهمُّ هنا؛ إنَّما الشعورُ الجمعيُّ بأنَّ البلاد تستطيع أن تقف على قدميها، وأنَّ الطقسَ الجميلَ والأغنيةَ الحلوةَ قد يكونان حمايةً من الانهيار. فكلُّ ليلةِ موسيقى في بعلبك تُنبتُ فرصةَ عملٍ، وكلُّ طاولةٍ عامرة في أحد مطاعم الأشرفيّة تُشغلُ شابًّا كان ينتظر فرصةً ليُعلن ولاءه للحياة.
لبنان لا يريد الحرب… بل الحياة
لا حروبَ الآخرين ولا صراعاتهم العابثة ستسرق منّا شمسَ تموز. لبنان هو ذاك الطفلُ الذي يركض على شاطئ صور، وهو تلك العائلة التي تحتفل بزفافٍ تحت قناطر بعلبك، وهو تلك الأمُّ التي تحضّر التبّولة لضيوفِها القادمين من المنافي. هو وطنٌ يريدُ أن يعيش، لا أن يُستنزف. وطنٌ يبحثُ عن الأمانِ، لا عن العناوين الرنّانة التي تُشعلُ الحريقَ ثم تتركُ الرماد.
وصيفُ 2025 فصلٌ جديدٌ من حكايةِ هذا الوطن: فصوله السابقة كُتبت بالدخان، أما فصله الحالي، فيكتبُه اللبنانيون بلونِ البحرِ والسماءِ، وبصوتٍ أعلى من هدير المدافع: “نحن نحبُّ الحياة… وسنعيشُها رغم كلِّ شيء”.