ستيفانيا دي إنيوني* – (نيو لاينز) –
ألبوم عائلي قديم أخذني في رحلة عبر ماضي إيطاليا المظلم في ليبيا
***
بعد ظُهر يوم رطب من شهر آب (أغسطس) في الصيف الماضي، ساعدتُ والدتي في تفريغ الصناديق في منزل والديها، وهو عمل تم تأجيله لسنوات.
أثناء استراحة من فرز الأشياء لتحديد ما يُحتفظ به وما يُرمى، لفت نظري ألبوم عائلي ممزق جزئيًا. جلستُ على الأرض مع أمي، نقلِّب كومة الصور القديمة بالأبيض والأسود، ونتوقع أن نجد بضع صور لها ولشقيقها عندما كانا طفلين، أو بعض الصور من شباب جدتي الذهبي.
لكن ما وجدناه بدلًا من ذلك -وقد امتد على أكثر من ست صفحات- كان سجلًا بصريًا لأيام جدي كجندي في ليبيا. كانت الصور عادية إلى حد ما -ها هو يطل هنا على الكورنيش في طرابلس، أو يداعب جملاً- باستثناء تفصيلة واحدة أصابتني بالصدمة: في كل صورة، كان يرتدي زيًا عسكريًا فاشيًا تقليديًا.
قالت أمي: “ظننت أنكِ كنت تعلمين أن جدك قاتل في ليبيا”. وفجأة بدأت أسترجع ذكريات طفولتي، وأنا جالسة إلى مائدة الطعام بينما كان جدي يطعمني الخبز و”ريكوتا سالاتا”، نوع الجبن القاسي والمالح الشائع في مدينتي.
بينما أتناول الطعام، كان يقضي ساعات وهو يحكي لي عن هذا “الساحل الإيطالي” الآخر الذي عاش فيه لفترة، حيث قاتل إلى جانب الجنود الألمان خلال الحرب العالمية الثانية. كنتُ صغيرة جدًا في ذلك الوقت لأفهم -أو حتى أتذكر. لكنّ رؤية تلك الصور فجّرت في ذاكرتي كلمات مبعثرة، مثل “طرابلس الغرب” و”برقة”، والتي علمتُ لاحقًا، أثناء دراستي الجامعية في “دراسات الشرق الأوسط”، أنها تشير إلى مناطق جغرافية في ليبيا الحديثة.
عندما التقطت أنا وأمي بعض الصور، وجدنا ملاحظات مكتوبة بخط اليد مخفية خلفها، معظمها مواقع وتواريخ، بعضها يعود إلى العام 1938. قلت لأمي وقد لفتنا الحيرة: “لكنَّ هذا كان قبل اندلاع الحرب”. في حكاياته لنا، كان جدي دائمًا يقول إنه تم تجنيده للقتال في ليبيا -حيث كانت القوات النازية والفاشية تقاتل الحلفاء من أجل السيطرة على شمال أفريقيا- وأنه خدم هناك وهو في التاسعة عشرة من عمره. ولكن، لم تكن تلك كما يبدو أول جولة له على سواحل البحر الأبيض المتوسط الجنوبية.
عدت من يوم إفراغ الصناديق ذاك مشوشة الذهن وأشعر بثقل داخلي، وإنما فضولية لفهم المزيد عن وجود جدي في ليبيا قبل الحرب. بينما كنتُ أكبر، كان الاستعمار الإيطالي دائمًا نوعًا من مسألة هامشية في دروس التاريخ؛ في المدرسة، تعلمنا ببساطة أننا احتللنا ليبيا في العام 1911 بعد أن أخذناها من إمبراطورية عثمانية آيلة للسقوط، على أمل استغلال هذه القوة الاستعمارية المكتشفة حديثة -حتى لو متأخرًا- لمجاراة فرنسا والإمبراطورية البريطانية في سباق السيطرة على أفريقيا- وأننا نجحنا في ذلك إلى أن وجهت الحرب العالمية الثانية ضربة لحملتنا. لكن هذا كل ما في الأمر. بعد العام 1945، لا ذكر للاحتلال، ولا للآثار التي خلّفها على السكان المحليين.
أخذت معي ألبوم الصور، وكلما بحثت وسألت أكثر، اكتشفت أن الماضي الاستعماري لإيطاليا في ليبيا كان موجودًا دائمًا داخل عائلتي، وفي كل مكان من حولي، وإنما مختبئًا في العلن.
من أصدقاء والدي المقربين -الذين وُلدوا ونشأوا في ليبيا، لكنهم تجنبوا الحديث عن ذلك لسنوات- إلى إعلان طبيب أسناني عن أخذ إجازة لمدة عام واحدة والذهاب للعمل في كلية طب أسنان في ليبيا، حيثُ يدرِّس باللغة الإيطالية، ومن دون الحاجة إلى تأشيرة، وبراتب سنوي يساوي ثلاثة أضعاف متوسط الرواتب المحلية، بدأت أدرك فجأة كم كان مهمًا لي أن أواجه هذا العالَم المصغّر لماضي عائلتي الغامض.
ويبدو هذا الوعي شيئًا ملحًّا بشكل خاص الآن، بعد مرور جيلين، بينما تشهد بلادي انتكاسة فاشية قاتمة في ظل حكومة اليمين المتطرف بقيادة جورجيا ميلوني.
وقد أصبح تصفح قنوات التلفزيون الإيطالي في هذه الأيام أشبه برحلة في ديستوبيا. ثمة عرض تلفزيوني جديد ينتقد نشأة الفاشية عُرض مؤخرًا ليُقابل بإشادة صاخبة من أنصار الفاشية، في حين أن نشرات أخبار “رادو وتلفزيون إيطاليا” -القناة الرسمية للدولة، التي تسيطر عليها حكومة ميلوني بشكل علني- بالكاد ذكرت آخر تجمّع للفاشيين الجدد لإحياء ذكرى الفاشية في “آكا لارنتيا”، حيث تجمع المئات وهم يؤدون التحية الرومانية. وقد قاطعهم متظاهر وحيد تم اعتقاله لأنه هتف: “تحيا المقاومة”.
لكنني لم أكن أتصور قط أنني سأجد هذا الهيكل العظمي في خزانة منزلنا. وأنا أتساءل كم عدد الإيطاليين الآخرين الذين يشاركونني السذاجة نفسها عندما يتعلق الأمر بماضي عائلاتهم ومجتمعاتهم -ذلك الماضي الذي يتم اليوم تشجيعنا على تمجيده.
ما يزال مشروع الاستيطان الاستعماري الإيطالي في ليبيا غامضًا إلى حد كبير، حتى في داخل البلد نفسه. فقد انضمت إيطاليا إلى سباق نحو غزو واحتلال حصة من القارة الإفريقية بعد قرون من نظرائها الأوروبيين. وفي كتب التاريخ، يوصف الإيطاليون -بمن فيهم الجنود- دائمًا بأنهم “أناس طيبون”.
وتُقدَّم هذه الأسطورة المقبولة على نطاق واسع، التي تصفهم بأنهم مسالمون وغير مؤذين، بل أحيانًا ساذجين كانوا يتصرفون من دون وعي، كوسيلة لتبييض جرائم الحرب التي ارتكبها البلد، وتقديمها في صورة مغايرة لجرائم القوى الأوروبية الأخرى، خصوصًا خلال العصور الاستعمارية. ولكن، كما كان الحال في حملات إيطاليا الوحشية في إثيوبيا والصومال، كان غزو ليبيا في الواقع قاسيًا وعنيفًا.
في كتابه “الإبادة الجماعية في ليبيا”، يؤكد الكاتب والبروفيسور الليبي علي عبد اللطيف احميدة، أن “إيطاليا نظرت إلى ليبيا على أنها ’الشاطئ الرابع‘، امتدادٌ لإيطاليا، تمامًا كما تعامل الفرنسيون مع الجزائر”.
وكشفت أبحاثه أن الهدف الاستعماري لإيطاليا كان توطين ما بين 500.000 إلى مليون إيطالي في المناطق الخصبة من “الجبل الأخضر” في شرق البلاد، وخاصة من الفلاحين الفقراء الذين بلا أرض من وسط وجنوب إيطاليا -مثل أسلافي.
لكن المستوطنين واجهوا مقاومة محلية واسعة النطاق لمشروعهم، وهي حقيقة نادرًا ما يُشار إليها في كتب التاريخ المدرسية الإيطالية. وعندما وصل الفاشيون بقيادة بينيتو موسوليني إلى الحكم في العام 1922، جاؤوا بخطة أكثر شرًّا: استبدال السكان المحليين بالمستوطنين.
كشف احميدة في أبحاثه أن المستوطنين الإيطاليين أقاموا معسكرات اعتقال عدة في صحراء سرت، حيث تم حبس حوالي 100.000 ليبي.
وكان أغلبهم من الذين قاوموا المشروع الاستعماري الإيطالي؛ لكن الكثيرين منهم كانوا أيضًا مدنيين عاديين مع مواشيهم، تم اقتلاعهم قسرًا من أراضيهم لإفساح المجال أمام المستوطنين الجدد. وقد وصلت أول موجة من المستوطنين الإيطاليين، وعددهم 20.000، في العام 1938. وكان هذا هو العام الذي وصل فيه جدي إلى ليبيا أيضًا. هل كان واحدًا منهم؟
مات نحو ثلثي الليبيين المسجونين في معسكرات الاعتقال. لكن هذا الفصل الوحشي من التاريخ لم يُطرح في أي يوم داخل عائلتي، ولا على مستوى وطني جماعي. فقد جعل الافتقار الواسع إلى الوعي بالذات والأبحاث الأكاديمية في هذا الشأن من الصعب على إيطاليا أن تواجه جرائمها الاستعمارية.
بل على العكس، كان الخطاب الإيطالي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والاستعمار يقول إن الإيطاليين أنفسهم كانوا ضحايا للفاشية والنازية الألمانية.
كانت والدتي تجهل تمامًا هذه الحقبة من تاريخ بلدنا؛ لم تتساءل يومًا عن سبب قضاء والدها وقتًا في ليبيا، ولم تشكك في الأمر من الأساس. ذات ظهيرة، جلسنا مجددًا معًا على فنجان قهوة، وبدأنا في ربط الخيوط ضمن مسعى عائلي لفهم ماضينا، على أمل التصالُح معه.
وبينما كانت أمي تسترجع ذكريات طفولتها مع جدها، جوزيبي ليوتا، تذكرت أنه كان يتحدث اليونانية بطلاقة.
سألتها: “كيف ذلك”؟أجابت: “كان ’كَرابينييري‘ [عنصرًا في الشرطة الوطنية الإيطالية] في رودس، الجزيرة اليونانية. ألا تعرفين أن جزءًا من اليونان كان تحت السيطرة الإيطالية”؟
بالطبع لم أكن أعرف، لأنه لم يحدث أن تحدث أحد عن ذلك، لا في المدرسة ولا في المنزل.
في محاولة لتعزيز نفوذها في المشرق، احتلت إيطاليا جزر الدوديكانيز العام 1911، والتي أصبحت لاحقًا، تحت حكم موسوليني، أرضًا لتجربة مشروع “إيطلة” المنطقة. وبحلول العام 1940، وبفضل برامج إعادة التوطين، أصبح نحو 25 في المائة من السكان إيطاليين. وتم إرسال قوة شرطة وحشية إلى هناك لـ”حماية” المستوطنين وممتلكاتهم. وخدم جدي الأكبر في تلك القوة.
من خلال ذكريات أمي المتلاشية ومساعدة شقيقها الأكبر، اكتشفنا أن جدّي الأكبر، المتأثر بدعاية الفاشية آنذاك -التي حفّزت الإيطاليين على “استعادة” الأراضي التي كانت يومًا جزءًا من الإمبراطورية الرومانية- هو الذي شجّع ابنه، جدي، على الذهاب إلى ليبيا. ومثل والده، انضم جدي إلى قوات الأمن الاستعمارية لما كان يراه دفاعًا عن المستوطنين و”ترويضًا” للمتمردين على شاطئ آخر من شواطئ المتوسط.كان المستوطنون يؤمنون بأنه بما أن ليبيا كانت جزءًا من الإمبراطورية الرومانية، فإنهم ببساطة يستعيدون أرضًا هي حق لهم بالولادة. (لا تفوتني ملاحظة أصداء هذا المنطق في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الحالي). كانت فكرة إحياء “أفريقيا الرومانية” جزءًا أساسيًا من الدعاية لتبرير الاستعمار.
وعلى الرغم من أن تجربة الفاشيين الإيطاليين في الاستعمار انتهت في العام 1943 بعد هزيمتهم على يد الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، إلا أن العديد من المستوطنين ظلوا هناك، بل تبعهم آخرون، وواصلوا الاستيطان حتى سبعينيات القرن الماضي.
أخبرتني جيوفانا جيونتا، البالغة من العمر 59 عامًا، وهي زميلة أمي في المدرسة الابتدائية في كاتانيا حيث تعملان معًا، بأنها ما تزال تتذكر الفِناء والعناصر المعمارية ذات الطابع العربي في منزلها المشمس في طرابلس.
كان أجدادها من كاتانيا وسيراكوزا في صقلية، وغادرت عائلاتهم إيطاليا ليستقروا في ليبيا في العام 1912، مع وعد بحياة أكثر ازدهارًا. وقد وُلد جميع أفراد أسرتها، بمن فيهم والداها وأعمامها وأبناء عمومتها، وتربوا في ليبيا.قالت لي جيونتا حين سألتها عن ذكرياتها عن ليبيا: “كان الأمر أشبه بالنشأة في أي منطقة أخرى من إيطاليا. كنا نتعامل فقط فيما بيننا نحن الإيطاليين. لم نكن نلعب مع الأطفال العرب؛ لم يكن آباؤنا يسمحون بذلك. ولم نكن نتعلم لغتهم، إلا إذا كان ذلك لأغراض العمل فحسب”.
وأشارت إلى أن والدها، الذي كان يعمل في القاعدة العسكرية الأميركية، هو الوحيد في العائلة الذي تعلم اللغة العربية بطلاقة، لأنه كان يحتاج إليها للتعامل مع “العمال الليبيين غير المهرة”.
نالت ليبيا استقلالها في العام 1951، بعد سنوات قليلة من سيطرة بريطانيا وفرنسا عليها لفترة وجيزة في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ومن خلال اتفاقية أُبرمت في العام 1956، منحت إيطاليا ليبيا مبلغًا من المال كتعويض عن أضرار الحرب، وتخلّت عن جميع الممتلكات الحكومية الإيطالية للدولة الليبية الجديدة.
وقد أتاحت هذه التسوية الاقتصادية، لفترة وجيزة، الاعتراف بأحفاد المستوطنين الإيطاليين في ليبيا ومنحهم حق البقاء في البلاد. واستمر هذا الوضع حتى العام 1970، حين أعلن معمر القذافي مصادرة جميع ممتلكاتهم وطردهم من دون دفع أي تعويض لهم. وخلال أقل من ثلاثة أشهر، تم ترحيل أكثر من 14.000 إيطالي من ليبيا قسرًا.
بعد حياة كاملة قضوها في ليبيا، كانت جيونتا وأسرتها من بين أولئك الذين تم ترحيلهم في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 1970. كانت تبلغ من العمر آنذاك خمس سنوات فقط، لكنها ما تزال تتذكر كل شيء عن هذه اللحظة الصادمة في حياتها. قالت: “سُمح لنا بحمل حقيبة واحدة فقط لكل شخص”.
وأضافت: “ثم تم نقلنا على متن سفينة أوصلتنا إلى نابولي، حيث عشنا في مخيم للاجئين لمدة تقارب الشهرين. كنا مثل اللاجئين، تمامًا مثل الذين نراهم الآن على شاشات التلفاز. لم نكن نستحق هذه المعاملة القاسية”.
ما يزال هذا موضوعًا نادرًا ما يتم التطرق إليه، ويُذكر على استحياء، لكنّ ليبيا تُذكر في أوساط الأجيال الأكبر سنًا بمزيج من الفخر والكراهية. وبحسب العديد من “إيطاليي ليبيا” -وهو الاسم الذي أُطلق على أولئك الذين تم طردهم من هناك، فإن المعاملة التي تلقوها كانت غير عادلة. لكن ذلك كان بالنسبة لليبيين ردة فعل طبيعية على استعمارهم.
قالت لي فرانشيسكا ريكوتي، رئيسة “جمعية الإيطاليين المُرحّلين من ليبيا”، التي تتخذ من روما مقرًا لها ويبلغ عدد أعضائها اليوم نحو 400 شخص، إن الطريقة التي تم بها طرد الإيطاليين كانت غير حضارية وغير مبررة ووحشية. لقد اضطر الإيطاليون إلى ترك جميع ممتلكاتهم وأُتيح لهم أخذ مبالغ مالية محدودة فقط. وأضافت: “فعلت الحكومة الإيطالية القليل جدًا لحماية مصالحنا وكرامتنا، وأظهرت قدرًا مفرطًا من الامتثال والتنازل، وهو ما فسره القذافي على أنه ضعف”.
في إيطاليا، كان هؤلاء العائدون موضع ازدراء، يُنظر إليهم كمهاجرين يحملون تاريخًا مشينًا سعت البلاد إلى التستر عليه بكل حزم. وأضافت فرانشيسكا أن “جيرانهم السابقين” لم يكونوا أفضل حالًا، وقالت: “لقد اعتبرنا الليبيون -ظلمًا- مستعمِرين، لكننا لم نكن كذلك. لقد شجعتنا حكومتنا في ذلك الوقت على اغتنام فرصة لعيش حياة أفضل. كنا مجتمعًا سلميًا نعيش في انسجام مع السكان المحليين. لم نبقَ هناك لأن الفاشية دفعتنا لذلك، بل لأننا كنا نعيش بشكل جيد هناك”.
وعندما واجهتها بسؤال عمّا إذا كانت مجموعتها تشعر بأي ذنب، نظرًا لأن وجودهم كان جزءًا من مشروع إبادة جماعية ووجودًا غير مرغوب فيه قاومه السكان المحليون، أجابت: “في عشرينيات القرن الماضي، كانت ليبيا بلدًا فقيرًا، ليست فيه مياه، والزراعة فيه ما تزال بدائية.
وبحلول الوقت الذي أعيد فيه الإيطاليون إلى وطنهم، كانت ليبيا قد أصبحت واحدة من أكثر الدول تطورًا في منطقة البحر الأبيض المتوسط: كانت لديها مدن لا تقل تطورًا عن المدن الإيطالية. ربما فعلنا بعض الأمور السيئة، لكننا أسهمنا بشكل إيجابي أيضًا في تطوير البلد”.
في إيطاليا، كما في العديد من الدول الاستعمارية السابقة مثل فرنسا وبريطانيا، ما يزال هذا الطرح هو السردية السائدة، حيث تُستذكَر الحقبة الاستعمارية بشيء من الحنين، وتُغلَّف بنبرة من المظلومية، من دون أن يتم استنطاقها بعمق من حيث وحشيتها.
مع تفكك ليبيا بعد العام 2011، حاولت إيطاليا استعادة نفوذها في البحر الأبيض المتوسط من خلال مستعمرتها السابقة -في البداية كجزء من خطة أوروبية أوسع لاستغلال البلاد من أجل السيطرة على الهجرة.
وفي الآونة الأخيرة، في ظل حكومة ميلوني، أعاد “اتفاق التفاهم والصداقة المتبادلة” فعليًا العلاقات بين البلدين، بموجبه تتلقى ليبيا ملايين الدولارات لقاء منع المهاجرين من الوصول إلى الشواطئ الإيطالية، بينما تجني الشركات الإيطالية، بما في ذلك شركات النفط والغاز، أرباحًا من موارد ليبيا.
في ليبيا ما بعد القذافي، حصل حتى المستوطنون الإيطاليون الذين كان قد طردهم في السبعينيات على الحق في العودة إلى البلد كما يشاؤون -وإن كان ذلك كزوار فقط. وقد فعل الكثيرون ذلك من دون أدنى شعور بالذنب، بينما يعيدون ترتيب ذكرياتهم الشخصية. وزارت كلٌّ من عائلتي ريكوتي وجيونتا ليبيا أو تخطط لذلك؛ لطالما تاق كبار السن في العائلتين إلى العودة، حتى وهم على أسرتهم في سكرات الموت.
في العام 1951، كان عدد سكان ليبيا نحو 1.5 مليون نسمة. وتشير أبحاث أحمد احميدة والبيانات التي يعرضها في كتابه إلى ما يشبه حملة تطهير عرقي إيطالية، ربما أدت إلى انخفاض عدد السكان المحليين بما يصل إلى 10 في المائة.
وبالمقارنة مع الإرث الاستعماري المضطرب للقوى الأوروبية الأخرى، لم يتعرض الاستعمار الإيطالي في ليبيا، والعنف الذي جعله ذلك الاستعمار ممكناً، إلا لقدر ضئيل من التدقيق أو المساءلة.
ربما تكون الحالة الليبية المثال الأوضح على ما وصفه مؤرخون مثل احميدة بـ”الإبادة الاستعمارية” في شمال إفريقيا. ومع ذلك، تم تجاهل هذا الواقع لعقود تقترب من قرن كامل. أصبحت الأبحاث على المستوى الرسمي شبه مستحيلة: فصّل احميدة محاولاته للوصول إلى الأرشيفات الاستعمارية في ليبيا من دون جدوى، بل إن سجلات “جمعية الإيطاليين العائدين من ليبيا” نفسها أصبحت ضحية لميل إيطاليا إلى التلاعب بالوثائق التاريخية بعد وقوع الأحداث. وما يزال المجتمع الإيطالي، مع استثناءات قليلة، يرفض مواجهة فظائع حقبته الاستعمارية، خاصة في ليبيا.
لن أعرف أبداً ما إذا كان جدي ووالده قد أدركا حجم تورطهما في أحلام إيطاليا الاستعمارية. طوال شهر كانون الثاني (يناير)، وقبيل يوم ذكرى المحرقة، بثّت قناة “ميدياست” التجارية الإيطالية -التي أسسها رئيس الوزراء الإيطالي الراحل من يمين الوسط سيلفيو برلوسكوني- مقاطع قصيرة من مشروعها الوثائقي “فيفا لا ميموريا” (عاشت الذكرى) خلال الفواصل الإعلانية. ويروي المشروع قصص أحفاد الناجين من معسكرات الاعتقال النازية وهم يسردون تجارب آبائهم وأجدادهم -وهو مشروع نبيل بلا شك.
لكن النسيان الجمعي لمعسكرات الاعتقال الأخرى -خاصة تلك التي أنشأها الإيطاليون- يصيبني بالقلق في هذا المناخ السياسي.
ولا يسعني سوى أن أتساءل: هل شعر جدي يوماً بالذنب إزاء وجوده كمستوطِن استعماري في ليبيا؟ في نهاية المطاف، لم يكن أكثر من طفل حين حطت قدماه على أرض طرابلس، ولم يرتكب خطأ العودة إليها بعد العام 1945.
لكنني عندما أستعيد حكاياته لي على مائدة العشاء حين كنت طفلة، لا أذكر أنه أظهر أي علامات ندم على أيامه في طرابلس. في رواياته، كان هو “محرر” الليبيين “الغارقين في الظلام”، ونبرته المتحمسة كانت توحي بأنه استمتع كثيراً هناك، على الشاطئ، يأكل الكسكس ويركب الجمال.
طمأنتني والدتي إلى أنه كان رجلاً صالحاً، وأنه لم يكن ليقتل أحداً في ليبيا، لكنني أدرك أن مجرد الوجود الجسدي هناك كان يعني التواطؤ في مشروع إبادة جماعية. ورفض الأجيال اللاحقة الاعتراف بهذا التواطؤ هو جزء من المشكلة.
أجدُ مفارقة كبيرة في أن جدي اختار، بعد الحرب، أن يتزوج من جدتي، خوسيفينا ألميراريس، وهي ابنة لاجئين إسبان فروا من الأندلس هرباً من انقلاب فرانسيسكو فرانكو في العام 1936 وما أعقبه من فاشية، ليجدوا أنفسهم تحت شكل مختلف من الديكتاتورية اليمينية في صقلية.
ربما كان ذلك قراراً غير واعٍ نابعاً من الحب، أو لعل احتضان لاجئة هاربة من ديكتاتورية فاشية كان محاولة منه للتكفير عن ماضٍ مظلم. لن أتمكن من حسم هذه الأسئلة في رأسي أبداً؛ ولهذا من المهم أن تُثار هذه الحوارات داخل جدران بيوتنا، قبل أن يختفي آخر شهود تلك الحقبة من على وجه الأرض. وسوف تشكل المراجعة التاريخية التي ما تزال قائمة حتى اليوم تحدياً للمستقبل.
خلال آخر زيارة لي لطبيب الأسنان، سألني، بوصفي شخصاً سافر كثيراً في العالم العربي، عما إذا كان عليه أن يقبل الوظيفة التي عُرضت عليه في ليبيا. قال لي بنبرة أبوية متعالية: “أظن أنها مكان فوضوي للعيش فيه. لكنني أيضاً لا أريد أن أحرم أولئك الأقل حظاً من تلقي تعليم جيد. من واجبنا أن نعلمهم”. وهنا أدركت أن الطريق ما يزال طويلاً أمام “إزالة الاستعمار” من الذهنية الإيطالية، ومن العقلية الغربية عموماً.
القائد الليبي الكبير عمر المختار معتقلا لدى قوات الاستعمار الإيطالية عام 1931 – (أرشيفية)
بينما أعيد ألبوم صور العائلة إلى حيث وجدتُه، بدأت أفكر في أنني ربما أسافر أنا أيضًا ذات يوم إلى طرابلس، على متن إحدى الرحلات اليومية التي تم ترتيبها حديثًا للخطوط الجوية الإيطالية.
أريد أن أتعقب الأماكن التي رأيتُ جدي ورفاقه يقفون فيها لالتقاط الصور؛ أن أمشي على ما أتصور أنه كان مساره اليومي على كورنيش البحر -لكنني أفعل ذلك وأنا مدركة تمامًا، كما آمل، ما يعنيه وجودي كإيطالية على ذلك الرصيف نفسه.
حتى لو كانت رحلة قصيرة، فإن لديّ متاعًا ثقيلًا. لكنني أود أن أُخفف الحمل قليلاً -عن جدي، وعن نفسي أيضًا.
*ستيفانيا دي إنيوني Stefania D’Ignoti: صحفية مستقلة تنحدر من جزيرة صقلية الإيطالية، حائزة على جوائز وتعمل في تغطية قضايا النزاعات، والهجرة، وصعود اليمين المتطرف في أوروبا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
يتركز عملها الصحفي على تعقب أثر السياسات على حياة الأفراد، خصوصاً في مناطق ما بعد النزاع وعلى حدود أوروبا الجنوبية، مع اهتمام خاص بالتقاطع بين الأمن والهوية والهجرة.
حصلت على عدد من الزمالات والجوائز تقديراً لعملها، من بينها زمالة GroundTruth Project، وزمالة مركز بوليتزر للصحافة. تُعرف بأسلوبها الإنساني في السرد، وقدرتها على الوصول إلى مجتمعات مهمّشة ونقل قصصها إلى الرأي العام العالمي بدقة وتعاطف.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: My Grandpa. the Fascist?