في عالم يضج بالضجيج، تُولد كلمات نادرة كأنها ممهورة بختم المستقبل، كلمة ولي العهد الأردني، الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، لم تكن مجرد خطاب شبابي في ملتقى وطني، لقد كانت خريطة طريق ذهنية، ونبوءة هادئة تضع الأردن على مسار التحول الذكي، بل كانت بياناً فلسفياً عميقاً يُعيد تعريف مفهوم الوطن، لا كمكان فحسب، بل كمنصة عقلية وفضاء للتمكين التكنولوجي.
العمق الأهم في هذا الخطاب لا يكمن في مفرداته، بل في بنيته الفكرية: إنه لا ينتمي إلى زمن الاستهلاك السياسي، بل إلى زمن (البرمجة الوجودية) حيث تصاغ هوية الدولة القادمة لا على أساس الحنين فقط، بل على بصيرة استشرافية لما يجب أن يكون.
فالحديث عن (أن تكون الانطباعات أقوى من الحقائق) ليس مجرد ملاحظة إعلامية، بل اعتراف صريح بخلل كوني في إدراك الحقيقة، في زمن تصنع فيه الخوارزميات الصور قبل الوقائع. هذا الوعي الفلسفي بالتحول في مفهوم الحقيقة هو جوهر القيادة المعاصرة، قيادة لا تكتفي بإدارة الحاضر، بل تعيد برمجته ليُصبح مُهيأً لاستقبال الغد.
وفي كل سطر من الكلمة، يتبدى التوازن المذهل بين الاعتراف بالثوابت والانطلاق نحو المستقبل، المثابرة والإخلاص والتميز، ليست شعارات تزيّن بداية الخطاب، بل حجر الأساس الذي عليه تُبنى معادلات التحوّل القادم. إنها ليست قيماً للاستهلاك الإعلامي، بل هي هندسة نفسية تُعدّ الإنسان الأردني ليكون منتجاً للقيمة وليس مجرد تابع لها.
ثمّة بُعد مستقبلي بالغ الأهمية في هذه الكلمة: التكنولوجيا ليست هنا لتحلّ المشكلات فقط، بل لتُعيد تعريف معنى الحلّ ذاته. عندما يتحدث ولي العهد عن (مساعد افتراضي) و(درونات أردنية) و(مواطن يتواصل مع طبيب عن بعد)، فهو لا يصف فقط مشاهد مستقبلية، بل يعيد ترتيب أولويات السيادة: السيادة هنا لم تعد سياسية فقط، بل معرفية، سيادة على المعلومة، على الفكرة، على الخوارزمية، على صناعة الزمن نفسه.
في هذه الكلمة، تنتقل الدولة من كونها جهازاً إدارياً إلى كيان حيّ يفكر ويتفاعل ويتجدد، يُعاد تشكيل مفهوم (المؤسسة العامة) لتصبح كياناً خلاقاً لا يدير الوقت بل يصنعه. هذا التحول ليس تجميلياً ولا تنموياً بالمعنى التقليدي، بل هو انتقال نحو (دولة الذكاء) لا بالمعنى الحاسوبي فقط، بل بالمعنى الإنساني الكامل: دولة تُمكّن العقول لا تُديرها، تحتضن المواهب لا تُخضعها، وتعيد للمواطن سلطته كمنتج للمعنى لا كمتلقٍ له.
الأمير الحسين، في لغته الموزونة بدقة، لا يسوّق مشاريع، بل يحرر العقول من ثقل اللاممكن، لا نستغرق طويلاً في مناقشة الأفكار. هذه ليست دعوة للعجلة، بل تحدٍ لثقافة التردد التي عطلت المبادرات في العقود السابقة. فالحكمة هنا لا تعني التأمل الطويل، بل القفز الواعي إلى حيز التجريب، وإتاحة الخطأ كجزء من التعلم، والاعتراف بالقصور كخطوة نحو الإتقان.
ثم تأتي الجملة المفصلية التي تضع الخطاب كله في سياق أعمق: (المهم ألا نكون مجرد مستهلكين للتكنولوجيا، بل أن نكون رواداً في صناعتها). هنا تكمن الفلسفة الحقيقية للكلمة: دعوة للانتقال من (اقتصاد السوق) إلى (اقتصاد المعنى) ، من الاستيراد إلى الابتكار، من الاستجابة إلى الريادة.
في ظل تحولات كبرى تهزّ العالم العربي من محيطه إلى خليجه، وفي وقت تترنح فيه بعض الدول تحت ضغط الاضطراب والتقلب، يخرج الأردن برسالة واضحة: نحن لا نناور، نحن نُعدّ العقول وهذا في حد ذاته إعلان سيادة من نوع جديد.
فحين يتحدث ولي العهد عن الذكاء الاصطناعي في الصحة والتعليم والحكومة والبيئة والزراعة، فهو لا يعرض سيناريوهات، بل يُؤسّس لـ (وحدة إدراك وطنية جديدة) ، تتجاوز مفاهيم الوزارات وتعيد صياغة دور الدولة. فالتكنولوجيا ليست أداة، بل فلسفة عمل. والمواطنة لا تعني فقط الولاء، بل الفعل والإنتاج والتأثير.
وبين كل هذا، تبرز النغمة العاطفية العميقة التي لم يُفصح عنها الأمير مباشرة، لكنها تسرّبت من بين السطور: القلق النبيل من الزمن القادم. فالحديث عن الاستقطاب والانطباعات ليس ترفاً، بل دليل على أن صاحب الكلمة لا يخاطب العقول فقط، بل يضع يده على نبض الوجدان العام، ويطرح العلاج لا بالشعارات، بل بالأدوات.
ربما تكون القيمة الأكبر في هذا الخطاب أنه لا يحتفي بالواقع، بل يُحرّض عليه. لا يمجّد الماضي، بل يستخرج من إرثه القيم التي يمكن إعادة ترميزها لتكون صالحة في عوالم ما بعد الجغرافيا وما بعد النفط. إنه خطاب ينتمي للمستقبل، ولكنه يحمل توقيع رجل يعرف معنى الجذور.
في ختام الكلمة، يُعلن الأمير أن المعرفة قوة، والأفكار ثروة، والعقول النيرة هي من تصنع الفرق. ولكن ما لم يُقال كان أوضح: أن الأردن إذا تبنّى هذه الرؤية، فلن يكون تابعًا في قطار المستقبل، بل سيكون أحد من يصنعون سكّته.
إنه ليس مجرد خطاب أمير شاب أمام جمهور من الشباب، بل هو بيان فلسفي لدولة تؤمن بأن أوانها لم يأتِ بعد لكنه يوشك.
وإذا كانت الدول تُبنى على الحجارة، فإن الأمم تُبنى على الأفكار. وفي الأردن، يبدو أن الحجر والفكرة قد تصالحا في عقل وليّ العهد.
الحسين.. برمجة الغد بلغة المستقبل* د. محمد العرب
2
المقالة السابقة