عروبة الإخباري – لانا المجالي –
4.( الحُضور )
-البَحْثُ عَنِ البُعدِ المفقود
ها أنا أفعل الشَّيء؛ أمشي في وسَطِ البلد، أمرُّ عَنْ صِياحِ الباعة، دكاكين العِطارة وهي تعبِقُ بالرَّوائح اللّاذعة للتَّوابلِ والأعشاب، الأثواب التقليديَّة المُزنَّرة المطرَّزة الحافِلة بالبهجة والحَنين، بسطات الخلاخيل والأساور والأقراط حائلة البَريق، معاطِف شتويَّة يهطلُ من أكمامِها المَطَر، كنزات ينبتُ في صوفِها عشبٌ أخضَر، أحذية بكعوبٍ عالية وواطِئة تَعِدُ مريديها بالمُضيِّ قُدمًا، عصير الرُّمان تندَلِقُ منهُ الغواية، الشَّمس والقمَر في سوق الذَّهَب، كنافة حبيبة بالجبنة والقَطِر، وجوه شاردة في همومِها اليوميَّة، غمزات طائشة تُصيِّر “الخِتيارة” صبيِّة.
مقابل مطعم هاشم، لَحِقَ بي ولَد يبيع الجوارب القطنيَّة، وبادرني مستفسِرًا: من أين أنتِ؟ قلت: من هُنا. التقيتُ بهِ بعدَ خمس دقائق في زقاق سوق البشارات. فكرَّرَ سؤاله: أنتِ من أين؟ أجبت: أنا من هُنا ، لا أعرف حقًّا، قد أكونُ مِن هُناك. ثمَّ استدرَكتُ وقد فهمتُ المغزى: ماذا عنك، من أين أنت؟ ردَّ بعفويَّةٍ: أنا من غزّة، هَل تعرفينها؟ أتيتُ مع أُمّي إلى عمّان كي أخضَعَ لعمليَّةٍ جراحيَّة. جَمدتُ أمامه؛ ولَدٌ حلو الملامح، يَنيفُ على العاشِرَة من العُمر، قمحيُّ اللَّون بشعرٍ بنيّ غَزير وعينين يَسيلُ منهما زيتُ الزَّيتون البكر، قبل أن أُدركَ بأنَّهُ يعرجُ في مشيته. سمعتُ أحد أصواتي، الصَّوتُ الواهن لفتاةٍ يفيضُ عنها الشَّوْق، يُغنِّي: “أنتِ من وين؟ أنا من بلد الشَّبابيك المجروحة بالحُبّ، ومفتوحة عالصّدفة. وأنتَ مِن وين؟ أنا من بلدِ الحكايات المحكيَّة عالمجد،المبنيَّة عالألفة”، ثمَّ إنّني غالَبتُ نفسي، وابتسمتُ بمرارة للولدِ الحلو وللفتاة المشتاقة، وأكملت: “والرَّيح تروح وترجع”.
حَثَثتُ الخُطَا مُغتَمَّة. قلتُ: سأقبِضُ على البُعدِ المفقود. هكذا، وببراءة طفلةٍ في السَّابعة، وإيمان عجوز تُهدهِدُ الرِّضا في قلبِها فينام. فرَدْتُ ذراعيّ، أغمضتُ عينيّ، أخذتُ نفسًا عميقًا، غَطَّيتُ كفِّي بأصابعي الخمسة ثمَّ فتحتُها فانثالَ منها- فيما يشبه السّحر- الحُضُور. حضوري المشتَّت، المُبعَد، المنسيّ، الطّاعِنُ في الإهمال والتَّسلِّي. وقتذاك، أي عِندَما حضرت، بتُّ جُزءًا من مَشهدِ وسطِ البلَد، لا قِطعة ناتِئَة ومُقحَمة عليه.
-رأيتُ فيما يَرَى الحاضِر
ها أنا أفعلُ اللّاشيء؛ أرَى فيما يَرَى الحاضِر، نَعلَ حذائي الجلديّ يألَفُ الأرصِفة، ويحزرُ مواضِع حُفَرِها وشُقوقِها المتناثِرة، فيتفاداها بِرَشاقةٍ لافِتَة. أمُدُّ صَوتي، عَلى طولِه، مثلَ صاحبِ بسطةٍ مُتمرِّس: “قرِّب قرِّب، كلّه بدينار، يا بلاش، كلّه بدينار”، أعُدُّ الدّنانير في المِحفظة الجلديَّة مهترئة الجوانب ممزّقة الجيوب. أحركّها قليلا، فأسمع خَشْخَشةَ القِطَعِ المَعدنيَّة المُدوّرة والمُضلَّعة، أطمئِنُ كحمامةٍ تقعدُ فوق سَطحِ الدَّار، ثمَّ أمدُّ صَوتي، عَلى طولِه، مثلَ صاحبِ بَسطةٍ مُتمرِّس: “قرِّب قرِّب، كلّه بدينار، يا بلاش، كلّه بدينار”.
رأيتُني فيما يِرَى الحاضِر، أمام باب متجرِ تركيب العطور الفرنسيَّة؛ متجر يقف على بابه شاب نحيل يؤمِّل الزّبائن المحتملين بالحصول على عيِّنة مجّانيّة. أدخلُ وعيني على قِنّينةٍ زجاجيَّة يميلُ لونها إلى البَحْر، أفتح غطاءها المعدنيّ، أغرقُ فيها، ثمّ أنجو، مرَّةً، مضمَّخة بشذى الورد الجوري، ومرّات بزهرة اللَّيلك، والفاوانيا، والتُّوليب، واللَّافندر، والغاردينيا، والزّنبق، والياسمين، واللّوتس، ومِسْك الرّوم، والفانيلا. تُدوِّخني الفانيلا، فأستسلم وأذهبُ معها إلى ذلكَ المَدى، أعمَق وأعمَق، كما يليقُ بحوريَّةِ العَبَق.
أدلِفُ إلى دكَّان العِطارة المجاوِر، يستقبلني الحبّهان بفنجانٍ مُرّ مِن القهوة العربيَّة، تلّفني القرفة بغلالة دفءٍ أحمَر، تَقيلُ عَثرتي وتقيمني على قَدمين وَذاكِرة. تَجرُّني توابل الكَمّون والكُركُم، مِن يّدي، إلى مطبخ جَدَّتي في غور الذّراع، لتخصفُ عليَّ مِنْ ورَقِ الغار وهي تبتهِل: “حوَّطتُكِ بالغار من شرِّ الغَدَّار”، أسأل: ومَن هو الغدَّار؟ تقول: الموت. وكانَ هُناك، الموتُ، دونما انقطاع، ينتظرُني كقطّةٍ بلديَّةٍ تَتوسَّل الشَّبَع أمام عتبات حيواتي المُتتابِعة في شريطٍ سينمائي: طفلة مُدلَّلة تلسَعُ لسانها حرارة الشَّطَّة، وشابَّة ساذجة تَألمُ ألَمًا حادًّا لفرط العشق فتسكِّنهُ بزيتِ القرنفل، وامرأة أربعينيَّة تَخُطُّ الإثمد بالمِرود في التَّجويفِ الدّاخلي لعينيها، وتُخضِّب شعر رأسها وباطن كفّيها بالحنَّاء.
رأيتُني فيما يِرَى الحاضِر، يستبدُّ بي الفضول، فألاحق-مثل قاتلة متسلِّلة- امرأة غادرَها الصِّبا؛ ذوى جَمالُها الغابر وخانتها مفاصِلُ الجَسَد. التقطّتُ تملّلها الظّاهِر من أمام ساحة المسجدِ الحسينيّ -“مُفَسْفَس الصَّحن” بتعبير المقدسي البشاري- فمشيتُ وراءها، عَلى مَهل، مرورًا بِمتاجر المُطرّزات الشرقيَّة، فأكشاك العصير الطّبيعي، فزقاق سوق الذّهب الذي خرجنا منه وانعطفنا يمينًا، وصولًا إلى محلٍّ ضيِّق بحجم دولاب الملابس في غرفةِ رضيع، عُلِّقَت أعلى بابه، المفتوح على مِصراعيه، يافطة بدائيَّة الصُّنع، كُتِب عليها بخطٍّ كالح “تصليح وبيع وشراء ساعات مستعملة”. دَخَلت المحلّ فتَبعتُها دونَ إبطاء، ووقفتُ إلى جانبها وهي تسدِّد نظراتها إلى الرَّجل القاعِد خلف طاولة عتيقة ملأى بأدواتٍ معدنيَّة. ودون أن تلقي السَّلام شمّرت عن معصمها وقرّبته من وجهه، وهي تقول بصوتٍ لاهث: هل تستطيع إصلاح هذا؟ أُريد أن تُعيد العقارب إلى الوراء. بَهُت الرَّجل المسنّ، وقال من خلف نظّارته السَّميكة: لكن، خيتا، أين السّاعة؟ معصمكِ عارٍ تمامًا من أيِّ شيء.أجابت بتصميم: أُريد أن تُعيد عقارب الزَّمن إلى الوراء، لا عقارب السَّاعة. ثمَّ عندما جوبِهَت بصمتهِ وذهوله، لوَت شفتيها بامتعاض، وتمتمت متبرِّمة: قالوا إنّك أحذق ساعاتي في البلد، وقد كذبوا كعادتهم، خسارة! ثمَّ مَضَت، بَعيدًا، بظهرٍ مُقوَّس وكتفين متهدِّلتين.
في المقهى، رأيتُني فيما يِرَى الحَاضِر، أضبِطُ تَدرُّجاتِ الضُّوء والظِّلّ في لَوحةٍ يرسمُها اثنان؛ رجلٌ وامرأة، يجلِسان، واحِدُهما مقابل الآخَر، على ضِفَّتيّ النَّهر، فَلنسمِّهِ “نهر الأردن” مثلًا.
جَذِلَة.. تَخْلَعُ كَعبَ حذائِها العالي لتغمرَ قدميها بالماء. بالخَطأ، يدعَسُ قدميّ المرأةِ التي يَشتَهي، تَصرُخ: آآه، فيضْحَك. تنتَبهُ لذقنهِ المَثلومة، ينتَبِه لِعَسلِ عينيها. يَدنو النَّادلُ مِنْ طاولتهما وهو يحمِلُ صينيَّة خشبيَّة مُدوّرة. بانحناءةٍ أنيقة يُقدِّم القهوة للمرأةِ الجذّابة، يقطع النّهر الذي يفصلهما، ثمَّ يُضيِّف الرَّجُلَ الوسيم. فجأة، وبحركةٍ مُتهوِّرة، يقفِزُ قلباهما إلى النَّهر، يُشيرُ الرَّجل إلى القلب خاصّته، ويهتِف: قَدْ يصطَدِم بحساسيّتكِ المفرطة. تهمسُ للرَّجُلِ الذي تُحِبّ: أخشى أنْ يغرَقَ في طبيعتك المَلولة. يبتَسِم، تبتسِم. يَتَنَزَّل الصَّمْت، فوقهما، أثناء تأمّلهما لقلبين يحرِّكان أذرُعهما في المّاء، في محاولةٍ يائسة، للنَّجاة.
في وسط البلد، رأيتُني فيما يِرَى الحَاضِر، أمنَحُ بيتًا وعائلة وكَلبًا أليفًا لكلِّ رجلٍ كامِد يمرُّ في دائرةِ حضوري، أمنَحُ قلبًا يدقّ لكلِّ حَصَاةٍ تلكزها الأقدام وهي تذرعُ الطَّريق رائحة جائية، أمْنَحُ حياةً مِنْ لحمٍ ودَم لكلِّ كتابٍ معروض على أرفُفِ الأكشاك، أمنَحُ أُمًّا لكلٍّ طفلٍ يبيع المناديل والمصاحِف عند الإشارة الضوئيَّة، أمنَحُ مِحفَظةً جلديَّة مكتنزِة بالدَّنانير لكلِّ صاحب بسطة، أمنَحُ ساقًا سَليمة لطفلِ غزَّة حلو الملامح، أمنَحهُ سَماءً لا تتساقط منها القذائف، أُعيدُ عقارب الزّمن إلى الوراء في مِعصَم امرأة مسنَّة، فأمنحها ظهرًا مشدودًا وشبابًا لا يشيخ، أمنَحُ عيدًا للعاشقين المتقابلين على ضفّتيّ النّهر في أرْضِ المقهى، أمنَحُ قلبيهما صَلاةً وتعويذة نَجَاة.
في #وسطِ_البلد، مارستُ اللّاشيء وقبضتُ عَلى البُعدِ المفقود؛ الحضور. وقتذاك، أي عندما حضرت، رأيتُ فيما يرَى الحاضِر، كأنَّني، كُنْتُ، قَد قُدِدْتُ مِنْ هذا الطِّين، وكأنَّني.. أطلَلْتُ بِرأسِي، صُدْفَةً، خارج تِلْكَ الشَّبابيك.
يوميَّات: في مديح اللَّاشيء
21