في زمنٍ بات فيه السلامُ سلعةً نادرة، وأصبحَ فيه صوتُ الحقِّ خافتًا بين ضجيجِ المصالح، ينهضُ من بين الجبالِ العالية صوتٌ هادئٌ كالمطر، نقيٌّ كينابيع الجليل، عميقٌ كدعاءِ أمٍّ في جوف الليل… صوتٌ لا يُشبه إلا الصدق، ولا يُشبهه إلا النور. هو الشيخ قاسم بدر، ذاك الحالم الهادئ الذي لم ينادِ بالمجد، بل دعا إلى المحبة، ولم يسعَ للظهور، بل سلك دروب النور.
من حرفيش، القرية التي تتكئ على كتفِ السماء، وتتنفس الحكمة من جذور التاريخ، خرج فتى نحيل الجسد، عظيم الروح، بعينين تلمعان شغفًا لمعرفة الله، وشفاهٍ ترتّل التوحيد كأنها تُنشد للملائكة. في طفولته، لم يكن كسائر الأطفال؛ لم يكن يركض خلف الطائرات الورقية، بل كان يركض خلف المعاني، يلاحق الأسئلة الوجودية في عيون الكبار، ويبحث عن الله في زوايا الأحاديث القديمة.
كان ينصت للشيخ الكبير وكأنه يصغي لآياتٍ تتنزّل، وكان يجلس إلى أمه ليسمع من نبرتها معنى الحنان، ويقرأ في انحناءة أبيه دروسًا عن الكرامة. كل لحظةٍ كانت درسًا، وكل نسمةٍ كانت إشارة، وكل ألمٍ كان بوابة إلى فهمٍ أعمق. لم تكن الرحلة مفروشةً بالورود، بل كانت مليئةً بالحجارة التي علّمته الصبر، والمواقف التي صقلت قلبه كما تُصقل السيوف بالنار.
كبر الفتى، ولكن روحه بقيت طاهرة كما هي. سار في دروب الحياة لا يحمل إلا قناعاته، ولا يركن إلا للحقيقة. تشبّع بالروحانيات كما تتشبع الأرض بمطر الشتاء، وتحوّلت خطواته إلى رسائل، ونظراته إلى دعوات، وصمته إلى تأملٍ يطير في فضاءات الحكمة.
وهكذا، بدأت مسيرة رجلٍ ليس كباقي الرجال، رجلٍ من نورٍ ووصايا، من حلمٍ وإصرار، من جذرٍ روحيٍّ ضاربٍ في عمق الأرض، وغصنٍ يلامس ضوء السماء.
خلوات البياضة: ولادة الروح الثانية
في تلك البقعة المقدّسة التي تُعانق السماء، بين جدرانٍ بيضاء تشهد على أنفاس العارفين، وتحت سقفٍ صامتٍ ينضحُ بالسكينة، خطا الشاب قاسم بدر أولى خطواته نحو الولادة الثانية… لا ولادة الجسد، بل ولادة الروح.
دخل خلوات البياضة لا بحثًا عن علمٍ يُحفظ، ولا عن مرتبةٍ تُمنح، بل دخَلَها كما تدخل الطيور أعشاشها وقت الصلاة، وكما تدخل الأرواح حضرة الحق حين تتجرد من كل ما سواها. كانت تلك اللحظة فاصلة بين زمنين: زمن الطفولة الحائرة، وزمن الحكمة الناضجة، بين قلبٍ يسأل، وروحٍ تُستجاب.
هناك، حيث تتنفس الأرواح نفحات الأزل، جلس على أرضٍ مُطهّرةٍ بدموع العارفين، وراح ينصتُ لا للكلمات، بل لصوت الحقيقة المتغلغلة في الصمت. بين ركعات الخضوع وهمسات الذكر، استقى من معاني التوحيد صفاء الفهم، ومن حكمة المشايخ طهارة القلب، ومن عمق الخلوة عمق الرؤية. كانت الساعات تمرّ عليه لا بالوقت، بل بالتحول، فكل لحظة كانت ولادة، وكل يوم كان شروقًا جديدًا.
لم تكن خلوةً فقط، بل كانت معراجًا… صعد فيه من ذاته إلى ذاته العليا، من ضوضاء العالم إلى سكينة المعنى. خرج منها لا كما دخل، بل خرج وهو يحمل في عينيه بصيرة، وفي قلبه نورًا، وفي روحه عهدًا: أن يكون من الآن فصاعدًا خادمًا للتوحيد، وناشرًا لرسالة السلام، وبانيًا لجسور الروح بين الأرض والسماء.
لقد خرج من خلوات البياضة شيخًا، لا بالمظهر، بل بالحضور. خرج منها حاملاً نَفَسًا سماويًّا، وسكينةً لا تُروى بالكلمات، وعزمًا لا يلين. أقسم في سرّه أن يجعل من حياته دعوةً صامتة تنبض بالفعل، ومن خطاه آياتٍ تمشي على الأرض، تهمس لكل من يراه: “هنا مرّ قلبٌ تلامس مع الله.”
خدمة المقامات: أن تُقدّس الأرض بروحك
حين عاد الشيخ قاسم بدر إلى قريته، لم يعد عائدًا إلى بيتٍ أو جدارٍ من حجر، بل عاد إلى النداء… النداء الذي سكن قلبه منذ خلوة البياضة، ذاك الصوت الخفيّ الذي يقول: “اخدم الأرض، تخدمك السماء.” لم يبحث عن مركز أو سلطة، بل اختار أن يبدأ من حيث يبدأ النور: من مقامٍ تتنزّل فيه الطمأنينة، ويعلو فيه الدعاء.
وقف أمام مقام النبي سبلان عليه السلام، لا بصفته زائرًا، بل كمن استُودع الأمانة. سجد بقلبه قبل جسده، واختلطت أنفاسه بنسائم المقام. هناك، أدرك أن خدمة المكان ليست تزيينًا بالحجارة، بل عملاً يوميًا يتوضأ فيه بالنية، ويصلي فيه بالعمل. على مدى أكثر من اثنين وعشرين عامًا، لم يكن مجرد سادنٍ لباب، بل كان حارسًا للنور، حافظًا للإرث، مترجمًا لرسالة التوحيد بأبسط الأفعال وأعمق النوايا.
أنشأ المرافق لتخدم لا لتُبهر، فتح الأبواب للزائرين لا ليستقبلهم، بل ليستقبل الله قلوبهم. جعل من المقام موئلًا للأرواح التائهة، مأوى للقلوب المرهقة، نقطة التقاء بين الأرض والسماء. صار المقام في عهده ليس فقط مزارًا، بل مدرسةً صامتة، ينهل منها الزائر السكينة قبل العلم.
ولم تتوقف عين الشيخ عن البصيرة… بل امتدت إلى مقام الشيخ الجليل مصطفى بدر، مقام الجدّ والمعلم، والميراث الحيّ في دمه. رأى في الجدران قصصًا تُروى، وفي الركن المهمل صلاةً تنتظر أن تُكمَل. رمّم الحجر، نعم، لكنه قبل ذلك رمّم الذكرى، أزال الغبار عن الذاكرة، وعن المكان، وعن القلب.
أعاد إليه هيبته لا بالترف، بل بالروح. جعله مقامًا لا يزوره الناس فقط، بل يستقرّون فيه لحظة تأمل، لحظة لقاء مع ذواتهم، مع سيرة رجلٍ من نور. صار ملتقى للأديان، ومنبرًا للسلام، وساحةً تُرفع فيها الأدعية من كل لسان، وتُقال فيها الكلمات الطيبة من كل عقيدة.
لقد قدّس الأرض بروحه، وسقى المقامات من حنانه، حتى صارت تنبض بما فيه… وصار هو، حيثما حلّ، مقامًا يمشي على الأرض.
من الجليل إلى العالم: السلام هو الطريق
لكن روح الشيخ قاسم بدر لم تُخلق لتبقى في حدود الجغرافيا، ولم تُولد لتُحبس في أروقة المقامات وحدها. لقد اتسعت بصيرته كما تتسع السماء، فصار يحمل على كتفيه رسالة لا وطن لها إلا الإنسان، ولا دين لها إلا الرحمة. من قلب الجليل، من تلك التلال المغمّسة بقدسية الزيتون والندى، انطلقت خطاه إلى العالم، لا كمسافرٍ يبحث عن مجد، بل كرسولٍ يبحث عن لقاء… لقاء الأرواح على أرض المحبة.
تولى رئاسة المجلس العالمي للسلام لحقوق الإنسان وحوار الأديان، لا ليرتدي عباءة المنصب، بل ليخلع عن الإنسانية أثواب الظلم والتفرقة. دخل هذا المنبر بروح الساعي لا المتصدّر، ووقف على منصّاته كمن يشعل شمعةً في زمن الظلام. لم تكن كلماته خطابًا ديبلوماسيًا، بل صلاةً تنبع من القلب، وعهدًا لا يرويه الحبر بل الدم، دم الشرفاء الذين لا يسكتون عن الحق.
في الأمم المتحدة، كان الحرف الذي يكتب الحلم؛ في الفاتيكان، كان اليد التي تصافح دون سؤال؛ في فرانكفورت، كان الصوت الذي لا يتعب من تكرار السلام؛ وفي بيروت، كان البلسم لجراحٍ ظلت تنزف في انتظار كلمة صدق.
شارك في المؤتمرات الدولية، وقف إلى جانب شخصيات عالمية، كرّموه بالدروع والأوسمة، ومنحوه شهادات الدكتوراه الفخرية… لكنه حين عاد إلى بيته، خلع كل تلك الألقاب على عتبة الباب، ودخل كما خرج أول مرة: متواضعًا، باسمًا، يحمل في عينيه بريق التوحيد وفي قلبه خريطة للسلام تبدأ من حرفيش وتمتد إلى أبعد مدى.
لقد أصبح صوته نداءً عابرًا للقارات، تتلقفه الشعوب كما تتلقف الأرض المطر. وفي كل خطوة خطاها، كان يرى في وجع اللاجئ وجعَه، وفي صمت الأمهات الثكالى صلاةً لا يسمعها إلا مَن عاش الألم بكرامة. كان يرى في ابتسامة طفلٍ تلوّح له من مخيم أو شارع، رسالةً من السماء تقول له: لا تتوقف… فما دمت تؤمن، سيولد النور.
الدبلوماسية الروحية: الكلمة التي تُصلح ما أفسدته السياسة
حين دخل الشيخ قاسم بدر نادي الدبلوماسيين العالميين في فرانكفورت، لم يكن ذلك ترفًا سياسيًا، ولا استعراضًا للمكانة، بل كانت روحه تحمل رسالةً أعمق من لغة المفاوضات، وأصدق من حسابات المصالح. دخل لا بربطة عنق ونظرة حادة، بل بنَفَسِ المتصوّف، وبصوتٍ يخرج من قلبٍ عاشق للسلام، ليمارس دبلوماسيةً من نوعٍ آخر… دبلوماسية الروح.
هناك، في القاعات المزخرفة بالنفوذ والقرارات، كان الشيخ قاسم هو الاستثناء؛ لم يُقاطع أحدًا، ولم يُجادل ليُقنع، بل كان يصغي كما يُصغي العارف إلى صمت الحكمة، يتحدث بصدقٍ يُربك الأقوياء، ويصيغ كلماته كما تُصاغ الأدعية في ليلٍ طويل. كان يرى أن ما أفسدته السياسات المتسرعة، يمكن أن تصلحه الكلمة الصادقة، وأن جراح الشعوب لا تُشفى بالصفقات، بل بالنية الخالصة وبالعمل النقي.
في كل لقاءٍ دولي، كان يحمل قضايا الشرق الأوسط لا كعناوين سياسية، بل كحكايات عاشها، كحزنٍ يسكن عينيه، كأملٍ يزرعه في أعين الآخرين. كان يتحدث عن اللاجئ لا كرقمٍ في تقارير الأمم المتحدة، بل كإنسانٍ يستحق مأوى ورحمة. كان ينقل أنين الأمهات، وحنين اليتامى، وألم المدن التي هُدمت بدم بارد، ليذكّر العالم بأن ما يسقط من السماء ليس دائمًا مطرًا، وأن ما يرتفع من الأرض قد يكون صرخةً للعدل.
لقد أعاد تعريف معنى الدبلوماسية؛ فهي ليست فقط مهنة تُمارَس خلف الأبواب المغلقة، بل صلاةٌ تُرفع من قلبٍ مؤمن، وكلمةُ حقٍّ تُقال في وجهِ جُرحٍ مفتوح. صار صوته صوت العقلاء في زمن الغضب، وصار حضوره في المحافل الدولية حضورًا للضمير، يذكّرهم أن أعظم انتصار هو الذي لا يُسجّل على الورق، بل في قلوب الناس.
قلبٌ على هيئة وطن… ووجهٌ يُشبه النور
ليس في الشيخ قاسم بدر ما يُشبه العاديّين… بل فيه من الطهر ما يُشبه السَّجدة، ومن السكينة ما يُشبه صوت الجدّات في الدعاء، ومن الثبات ما يُشبه جذور الزيتون في أرضٍ عطشى. هو رجلٌ وُلِدَ في الجليل، لكن روحه سافرت في كل الأرض، كأنها مرآةٌ تعكس ما فقدته البشرية من نقاء.
لم يكن يومًا طالبَ شهرة، ولا ساعيًا إلى سلطة، بل كان كمن نذر نفسه لخدمة المعنى، ولإحياء الروح في زمنٍ بات فيه الصمتُ أعلى من الضمير. حمل قلبه كما تُحمل الكتب السماوية: بخشوعٍ ومسؤولية، ومضى يُوزع النور على العابرين، يُصلح العلاقات، يُجبر الكسور، ويُعلّم أن الدين لا يُختصر في طقوس، بل يُولد من الرحمة، ويُثمر في المحبة.
هو رجلٌ من سلالة الصالحين، من سُلالة من يمشون على الأرض نورًا، ويتكلمون لغة السماء. جعل من حضوره دعاءً، ومن غيابه سؤالًا، ومن أفعاله إجاباتٍ عميقة عن معنى الإنسانية. في مجلسه يشعر الضالّ أنه وُجِد، والموجوع أنه شُفي، والتائه أنه عاد إلى بيت الروح.
وفي زمنٍ كثُرت فيه الأقنعة، كان وجهه مكشوفًا كالشمس، صريحًا كالنهر، هادئًا كالأمل. لم يصطدم بأحد، لكنه لم يُساوم على الحق. لم يتحدث كثيرًا، لكن كلماته حفرت في القلوب ممرات من نور.
هو ليس شيخًا فقط، بل نداءُ ضميرٍ في عتمة الحروب، هو قُبلةُ أملٍ على جبين الإنسانية، ونداءٌ خافت يقول لكلّ من أرهقهم العالم: لا تزال هناك قلوبٌ تنبض بالسلام.
الدكتور نضال العنداري