عروبة الإخباري
العرب – حنان مبروك –
كلما أشرقت الشمس على بلادي والبلدان المجاورة أفقنا غالبا على خبر انتحار أحدهم جراء تعرضه للتنمر والسخرية لفترات طويلة، بعضهم لم يختر أن ينتحر وينهي حياته بيديه، إنما انتهت بقرار من قلبه الذي توقّف عن العمل جراء الحزن والضغط النفسي الكبير.
يسمّى ما يحدث لهذه القلوب بمتلازمة “القلب المنكسر” أو “القلب المجروح” وهي اختصار “عاطفي” وشعبي لمتلازمة تاكوتسوبو أو ما يعرف علميا باعتلال عضلة القلب الإجهادي، وهي حالة مؤقتة تصيب القلب وتُشبه النوبة القلبية، ويقول بعض الأطباء حديثا إنها قد تؤدي إلى الوفاة. لاحظ كل من اعتلاهم حزن مفاجئ على موت أحد أحبائهم أو قهرا بسبب ظروف طارئة وأزمات كبيرة، وستعرف أن الحزن قد يكون قاتلا صامتا وسريعا.
أعود مجددا للكتابة عن التنمر بعد أن كتبت عنه مرات سابقة، جراء سماعي خبر انتحار تلميذة متفوقة في السنة الثامنة أساسيا لم تتجاوز بعد 14 عاما، تدعى زينب، طفلة مناضلة تقطع يوميا كيلومترات من منطقة “بولحناش” إلى إعدادية “سيدي سهيل” في أعالي جبال تالة التابعة لمحافظة القصرين في تونس.
حسب الأنباء الرائجة، كانت زينب تلميذة مجتهدة ومتفوقة في دراستها ويشهد لها كل زملائها والعاملون في المعهد، لكنها من عائلة فقيرة، بل فقيرة جدا. تفوّقها أشعل الغيرة في قلوب زملائها فمارسوا عليها شتّى أنواع التنمر والسخرية وعاملوها بقسوة.
لأنهم عجزوا عن مجاراتها دراسيا، يبدو أنهم قرّروا كسرها نفسيا، وكأنهم قادمون من ربوع تنعم برغد العيش. إنها مفارقة عجيبة، المؤكد أن كل التلاميذ من مستويات مادية متقاربة، كلهم أبناء الجبال الوعرة والمنطقة المنسية ذاتها.
في كل الأزمنة، الفقير ضعيف ومنكسر، ولا قيمة له في صراع القوة المجتمعي، ومن يقول غير ذلك فهو واهم أو يوهم الناس بأن “الفقراء أكثر أهل الجنة” ليبقيهم عاجزين، راضين عن فقرهم وضعفهم، يحتاجونه دائما ليرمي لهم الفتات.
قد نلوم كل كهل عاقل وواع على تمسكه بفقره وعدم سعيه الجاد والمستمر لتحسين معيشته والارتقاء في السلم الاجتماعي، قد نلوم الفقير أيضا على إنجابه الكثير من الأطفال دون مراعاة قدرته على توفير حياة كريمة لهم، فيأتون منكسرين منذ أنفاسهم الأولى، لكن لا يمكننا أن نلوم طفلا على فقر والديه.
لا ذنب لزينب سوى أنها وردة نبتت بين صخور جبال قاسية خلّفت القسوة في قلوب أغلب من سكنها فصنعوا لنا أطفالا بألسنة قاسية، لم تتعلم الرفق في القول، ولا أن الكلمة الطيبة كشجرة طيبة، ولا أنهم في بيئة “مسلمة” يجب أن يسلم المرء من أقوالهم وأفعالهم.
زينب ليست الأولى ولن تكون آخر من يقرر الانتحار جراء التنمر، هناك الكثيرون لديهم حساسية مفرطة تجاه كل كلمة سيئة توجه إليهم، ولأننا عاجزون عن إقناع الناس بحسن تربية أطفالهم يبدو أن الحل الأسرع أن نعلّم الناس كيف يكتسبون مناعة ضد الكلمات الجارحة، وأن يستخدموا رخصة الرد على السيئة بسيئة مثلها.
علينا أن نرفع شعار بيرم التونسي، ذلك الشاعر المتمرد والذي لم يسلم من لسانه أمير أو وزير أو غفير، حين قال “أما صحيح إن إلّى بيختشوا ماتوا.. و كل أهل التلامه والبرود عايشين.”
نحن في زمن يفرض علينا التحول إلى البرودة كي ننجو من ألسنة الآخرين ونحمي قلوبنا من الانكسار. وبما أننا ذكرنا بيرم الذي اكتسب كنيته “التونسي” من جهة والده الذي كان تونسيا، يبدو أنه هو الآخر ورث لسانه السليط والساخر والمتنمر من “تونسيته”، فهذا المجتمع ما ينفك يبهرنا كل يوم بساخرين جدد، لكنهم عوض أن يوظفوا مواهبهم في الشعر والرواية والفن كما فعل بيرم، هاهم يتفننون في القضاء بها على حياة الآخرين.