ثلاجة ماسك!* بشار جرار

الصحافة والإعلام، الاتصال والتواصل، وطوفان المؤثرين أو الذين يحسبون أنفسهم كذلك، يدركون أهمية ما يقال، ويعلمون أن الكثير من الرسائل كامنة فيما لا يقال. لهذا قيل في وصف الصورة بأنها أبلغ من ألف كلمة، وكذلك الصوت طبيعيا كانا أم تم إنتاجه بما تسمى مؤثرات صوتية، فضلا عن تلك الرسومات التوضيحية التي بلغت شأنا عظيما في إيصال الرسائل أو تشتيتها، فيما يعرف بالغرافيكس والإنفوغرافيكس. حتى المعلومة والحقائق المجردة لم تسلم من أفاعيل الذكاء الاصطناعي وأباطيله!
لكن لنا أن نتخيل جميعا كمتلقين للرسائل الإعلامية مدى تأثر المكان -الصورة بكل أبعادها- الذي يصير مشهدا متكاملا تلعب فيه الإضاءة والأشياء الموضوعة ليست مجرد ديكور، لتعظيم الفوائد المرجوة من إيصال الرسالة. ما كان الأمر أبدا مجرد صناعة للمحتوى بل التراسل، بحيث يكون أثر ال «مَسِجِنْغْ» أكثر عمقا واستدامة، وأحيانا بما يغني عن بيان من العيار الثقيل الذي كان محصورا بمصدر يُوصف بالعليم أو المطّلع أو المأذون، يقدمه مذيعون من الصف الأول، من النخبة الأولى عالية الجودة، ممن يثق بهم الجمهور كطيّب الذكر الأستاذ عدنان الزعبي بارك الله في عمره، ونجوم كبار نذكرهم ونذكرهن بعرفان دائما.
أضرب -لعله من الأفضل القول أقدّم- ثلاثة أمثلة على ذلك فيما يخص الصورة والخلفية. الأمثلة كلها من آيلون ماسك الذي أوجه الدعوة إليه مرة أخرى من على هذا المنبر الكريم -الدستور الغراء- كمولع بالمريخ لزيارة وادي رم، وقضاء أمسية صيفية صافية بدريّة ولا أحلى، في وادي القمر!
كل الآباء يحبون أبناءهم إلى حد الفداء، لكن الصورة التي لا تنسى هي ابنه على اكتافه في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض إلى جانب رئيس أقوى وأغنى دولة في العالم.
صورة من قبلُ لا تنسى، وهذه المرة ليست عن القيم الاجتماعية والأخلاقية بل الإدارية والاقتصادية، وهي تلك المغسلة التي حملها داخل مقر تويتر سابقا بعد شرائها وتحويلها إلى «اكس». بالثقافة الأمريكية يحمل الرمز معنًى إضافيا إلى لغات العالم، فيما يخص دلالة المغسلة على التنظيف من الأوساخ والشوائب بمعنى كل ما يمكن الاستغناء عنه، وتلك صورة قد تبدو قاسية، لكن آخر العلاج كما يقال الكي.. الرسالة المهمة التي يراد لها أن تبقى ولا تكون عابرة، مفادها بأن دَعِ الكلمة أو الصورة أو الرسالة ترسخ، «لِتِتْ سِنْكْ إنْ»!
من الصورة الأخيرة قبل انتهاء مهمة ماسك في البيت الأبيض و»دووج» كانت اصطحاب ماسك الشهر الماضي ضيف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، نظيره السلفادوري نجيب أو نايب بُقيلة وهو من أب مسلم وأم مسيحية وأصول ترجع إلى عائلة مسيحية فلسطينية من القدس وبيت لحم.
بقميصه وسرواله البسيط اصطحب ماسك النجيب، نايب الذي أبدع قبل السياسة بالقطاع الإعلاني، اصحبه بلا مرافقات تضج بها الصورة إلى مكتبه أو لعلها قاعة اجتماعات. لون الطاولة أبيض سادة، والمكان غير مزدحم بما يشتت المُشاهد أو الزائر أو الضيف. والأبلغ من كل ذلك، الضيافة! أشار أغنى رجل في العالم وربما في التاريخ إلى مضيفه الرئيس بأن تفضل، اختر ما تشتهيه نفسك من مرطبات من ثلاجة صغيرة، ثلاجة مكتب! يعني لا مراسل ولا «آذن ولا مساعد ولا فريق كبير من الخدم والحشم!
وحده فريقه الأمني الذي يقال أنه الأكبر في تاريخ حماية الشخصيات في العالم، ناهيك عن الحرس التقني الذي منه ما يرى ومنه ما لا يرى الذي يرصد الخطر على بُعد أميال!
انسحاب ماسك من دائرة الضوء داخل البيت الأبيض بطاقيتين على رأسه في آخر اجتماع وزاري حضره الأسبوع الماضي بمناسبة المئة يوم الأولى على ولاية ترامب الثانية، ترك صورا لا تنسى منها المغسلة والثلاجة.
بعض القضايا الشخصية، المهنية أو الوطنية، لا تحل إلا بهتين الصورتين ولا حاجة لأي منها لا لتأطير ولا لتنظير، ولا لتوزير ولا لتبرير. لا أحد منا يملك ترف التسويف ولا إعادة تجريب المجرّب!