عروبة الإخباري –
قبل أيام، عُرضت مسرحية في أحد المراكز الثقافية، لم يحضرها أكثر من عشرة أشخاص، وجميعهم تقريبًا من كبار السن. لم يكن بين الحضور شاب واحد. لم يكن هناك مراهق جاء بفضول، أو طالب جاء ليكتشف شيئًا جديدًا. كأن المسرح لم يعد يعني لهم شيئًا، أو كأنهم لا يعرفون أنه موجود أصلًا. هذه ليست قصة عابرة، بل انعكاس صريح لواقع ثقافي يتآكل.
وفي خبر تناول يوم ثقافي للأطفال وجدت أن «جرعة» الثقافة التي قدمت للاطفال هي أغان تفاعل معها الحضور كما لو أنهم في حفل «عيد ميلاد».
ليست مبالغة القول إن المراكز الثقافية في كثير من المدن الأردنية تحوّلت إلى مبانٍ إسمنتية بلا روح، كأنها مجرد هياكل شاهدة على غياب المشروع. مسارح لم تُضأ منذ سنوات، قاعات بلا جمهور، ميزانيات لا تكفي حتى لتوفير أدوات العمل البسيطة. أما مراكز الشباب، فقد أصبحت في أحسن الأحوال مساحة لمباراة كرة قدم تنتهي عند الغروب، وفي أسوأ الأحوال… مجرد لافتة حروفها محيت.
الحقيقة أن الدولة، بمؤسساتها المختلفة، غابت طويلاً عن ساحة الشباب، وتركتها بلا رؤية ثقافية واضحة، ولا مشاريع طويلة الأمد تليق بأحلام الجيل الجديد. فما بين مراكز شباب مغلقة أو ميتة سريريًا، ومكتبات بلا كتب حديثة أو أنشطة، ومهرجانات لا تخاطب العقل أو الشغف، تاه الجيل في زحام الفراغ.
في كل مرة نطرح سؤالًا عن سبب انجراف بعض الشباب نحو أفكار مغلقة أو شعاراتية أو حتى سطحية، غالبًا ما نتغافل عن السؤال الأهم: من الذي ملأ فراغهم؟ أو بالأحرى، من الذي ترك هذا الفراغ أصلًا؟
الشباب بطبعهم يحتاجون إلى شيء يؤمنون به، يتمسكون به، يعرّفون أنفسهم من خلاله. فإذا لم تُقدَّم لهم الفرص التي تنير عقولهم وتغذي شغفهم، لن يتوانوا عن الإنجذاب لما يملأ وجدانهم، حتى لو كان سطحيًا أو مشوَّهًا.
حين يُسأل شاب عن حلمه ولا يجد إجابة، فهذه مأساة حقيقية. وحين لا يملك فرصة للمشاركة في ورشة مسرح أو برنامج سينمائي أو نادٍ أدبي، فنحن لا نخسر موهبة فقط، بل نخسر عقلًا، ونترك الباب مفتوحًا أمام تيارات جاهزة لتقديم إجابات سهلة. نحن نطمح إلى بناء مجتمع متماسك ومنفتح، لكنه لا يقوم على الأمن فقط، بل على الفكر والفن والمعرفة. ومثل هذا البناء لا يتحقق دون استثمار جاد في أدواته: المسرح، المكتبة، الموسيقى، والرحلات التعليمية، لا مجرد فعاليات شكلية تُقام على عجل.
ليست المشكلة في قلة الموارد فقط، بل في سوء توزيعها أو غياب الإرادة لاكتشاف طاقات الشباب. لدينا مواهب في كل محافظة، لكنها تُهمَّش بسبب غياب الدعم أو التوجيه أو حتى الاعتراف بها. كم من شاب كتب رواية أو أخرج فيلمًا قصيرًا أو مثّل على مسرح محلي بموارد شخصية؟ وكم من فكرة جيدة تم تجاهلها فقط لأنها وُلدت خارج العاصمة أو لم تلقَ صدىً عند أصحاب القرار؟
إذا كان هناك أي هامش متاح لتغيير حقيقي، فليكن باتجاه ما يُنعش الحياة العامة: المسارح، ورش القراءة والكتابة، دورات الموسيقى، مسابقات التأليف، ومبادرات الاختراع والإبداع. الشباب بحاجة إلى هواء جديد، إلى أن يتنفسوا فضاءً مختلفًا عن التكرار والوعظ والتخويف.
الحاضر والمستقبل لا يصنعهما جيل مشغول فقط بالتحذيرات، بل جيل يقرأ، يحاور، يحلم، يعترض، ويُبدع. جيل لا يحتاج إلى من يلقنه كيف يعيش، بل إلى من يهيئ له المساحة ليختبر الحياة بنفسه.
فلنُعد النظر بهدوء. لسنا بحاجة إلى تغييرات جذرية بقدر ما نحتاج إلى استعادة دور أساسي تخلّت عنه المؤسسات. فلنبدأ من الشباب، من تلك المساحات الصغيرة التي تنمو فيها الأحلام. الفراغ أخطر مما نظن، لأنه لا يبقى فارغًا طويلًا. وإن أردنا جيلًا قويًا، واعيًا، محصنًا، فعلينا أن نزرع له أرضًا خصبة… فيها فن، فيها فكر، فيها حياة.
ربما لا نحتاج إلى أكثر من مسرح مضاء في حارة منسية، أو كتاب في يد طفل . ربما نحتاج فقط إلى أن نصدق أن الثقافة ليست ترفًا، بل نجاة. أن قصيدة تُقرأ في نادٍ صغير قد تنقذ شابًا من الضياع، وأن أغنية تُعزف في ركن شارع قد تُعيد الإيمان بالحياة لمن كاد أن يفقده.