عروبة الإخباري –
لا أنصّب نفسي خبيرًا ولا أُجيز لنفسي أن أكون صاحب فتوى في كل قضية، لكن حين أتكلم في الشأن العام، أحرص أن يكون حديثي قائمًا على فهم دقيق، ومعرفة متعمقة، وتقدير واعٍ للظرف الوطني، لا على العاطفة أو الإشاعة أو الاستقطاب. وحين أتخذ موقفًا، فإنما أفعل ذلك احترامًا لجمهور واعٍ، ولبلدٍ يستحق منا أن نرتقي في الخطاب، لا أن نُغرقه بالضجيج.
إن ما جرى مؤخرًا من كشف لمخطط إرهابي استهدف أمن الدولة الأردنية ليس سوى رأس جبل الجليد. فالدولة – بحكمتها المعهودة – لم تكشف إلا جزءًا بسيطًا من المؤامرة، بينما تتابع عن كثب شبكات أوسع، مدعومة من جهات خارجية، ممولة ومُدرّبة، تنسج في الخفاء مشروعًا أخطر من أن يُختصر بعدد من الأسماء.
هؤلاء ليسوا مجرد أفراد؛ بل خلايا نائمة تلبس عباءة العمل العام، وتتبنى خطاب الإسلام السياسي ظنًّا منها أن الشرعية تُنتزع بشعارات دينية. والحقيقة أن هذا الخطاب ما هو إلا قناع يُخفي مشروعًا لا يختلف – لا من حيث الجوهر ولا من حيث الوسائل – عن التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود.
ووفقًا لأحكام المادة 149 من قانون العقوبات الأردني، فإن كل من يمس سلامة الدولة أو وحدتها أو يروّج لتنظيم غير مشروع، يُعد مرتكبًا لجريمة تُهدد الأمن العام وتستوجب المساءلة القانونية الكاملة.
إن تأخُّر الدولة في اتخاذ رد فعل سياسي أو عسكري لا يعني تهاونًا ولا غفلة. بل على العكس، إنه قرار سيادي محسوب، نابع من فلسفة حكم تعرف متى تصمت ومتى تضرب.
الدولة الأردنية – كما نعرفها – لا تُبني مواقفها على افتراضات أو تكهنات، ولا تستجيب تحت ضغط الموجة. فهذه دولة ذات شرعية تاريخية، وجذور عميقة، وعين ترى ما لا يُقال، وتعلم متى تُظهر ومتى تُخفي.
فالأردن لم يكن يومًا ساحةً للفوضى، بل كان سدًا منيعًا أمام مشاريع العبث الإقليمي. ومن يستهدفه، لا يستهدف أرضًا فقط، بل يُقامر بوظيفة استقرار إقليمي وازن حافظ توازنات المنطقة لعقود.
ولمن لا يزال يظن أن المسألة محصورة في 16 متهمًا، أقول: أنتم مخطئون. ما يجري أكبر من ذلك بكثير. والدولة التي راقبت بصبر، تُعدّ الآن الخيارات، وتزن التوقيت.
والأهم من كل ذلك، أن هذه الدولة – رغم كل ما واجهته – لا تزال ترى أن بعض المتورطين هم من أبنائها، وتُبقي الباب مفتوحًا أمام العودة والاعتراف، لا ضعفًا منها، بل إيمانًا بأن بناء الدولة لا يكون بالإقصاء، بل بالاحتواء لمن يستحق.
أما أولئك الذين أداروا ظهورهم، وارتبطوا بأجندات لا ترى في الأردن إلا محطة، فليعلموا أن الأرض التي آوتهم، ستلفظهم إن اختاروا خيانتها.
هذه ليست قضية أجهزة أمن فقط، بل قضية جيل شاب لن يسمح بتكرار سيناريوهات الخراب من حوله. جيل قرأ ما جرى في سوريا والعراق ولبنان ولن يكرّر المأساة.
فالأردن ليس دولة تُختبر، ولا وطنًا يُساوَم عليه. من اختار أن يكون خارج الإجماع الوطني، فقد وضع نفسه في مواجهة دولة راسخة، لا ترتبك، ولا تتردّد، ولا تقبل بأنصاف الانتماء.
نحن لا نبحث عن الولاءات المؤقتة، بل عن الثوابت التي لا تتغيّر تحت ضغط المواقف أو الإغراءات. ومن يحاول اللعب على حواف الهوية، سيكتشف أن الهامش في الأردن أضيق من أن يتسع لخيانة.
لقد صمتنا كثيرًا، لا عن ضعف، بل عن حكمة. أما الآن فقد آن أوان الوضوح، والوضوح لا يحتاج إلى صوتٍ عالٍ، بل إلى قرارٍ لا يُرتد.
هذا وطن بُني على الثقة، لا على التواطؤ. وعلى الإخلاص، لا على التسلل. ومن لا يفهم ذلك فليبحث له عن موطئ قدمٍ في مكانٍ آخر.
حفظ الله الأردن دولةً، وقيادةً، وشعبًا، لا يُساوم على سيادته، ولا يُهادن من يتربّص به.