عروبة الإخباري –
في وطنٍ تتراكم فيه الأزمات كطبقات الغبار على مرآة الزمن، تنبثق أصوات نادرة تُصرّ على أن تظلّ مرآة صافية للناس، حقيقية، جريئة، لا تساوم ولا تتراجع.، الصحافية والباحثة اللبنانية، ريتا بولس شهوان، هي واحدة من هذه الأصوات التي لا تُشبه إلا نفسها. امرأة تكتب بحبر التجربة، وتوثّق بصدق الألم، وتحلل بعقلٍ لا يعرف الخوف.
ريتا لم تكن يومًا ناقلةً للأحداث فحسب، بل كانت دومًا تقف عند خطوط التماس مع المعاناة، تمسح الغبار عن الوجوه المنسية، وتمنحها منبرًا وصوتًا. في زمن تصدّرت فيه العناوين الصاخبة المشهد، اختارت ريتا الكتابة بهدوء العارفين، وعمق الباحثين، وصدق من يعايش الألم عن كثب.
لقد ساهمت بشكل كبير في توثيق وتحليل الأزمة الاقتصادية اللبنانية، من خلال مقاربات إنسانية ومعرفية متقاطعة، رصدت فيها كيف تتداعى الهويات، وتتشظى الأحلام، وتنهار الكرامات تحت وطأة الانهيار المالي. لكنّها، في كل ذلك، لم تسقط في فخّ البكائية. كانت كلماتها مقاومة بحد ذاتها، تفتح نوافذ للفهم، وتزرع في القارئ إحساسًا مشتركًا بالمسؤولية.
في الميدان الأكاديمي، تميزت ريتا بقدرة نادرة على الربط بين الواقع المأزوم والتاريخ الحيّ، فبحثت في المسكوت عنه من الذاكرة اللبنانية، وفي قضايا النساء، والهوية، والديناميكيات الاجتماعية والسياسية التي تصنع وتُعيد تشكيل المجتمعات. كتاباتها البحثية تحمل مزيجًا من الحرفية والرؤية، وتطرح أسئلتها من موقع المواطنة العميقة، لا من برج عاجي.
وما يثير الإعجاب حقًا هو قدرتها على الإمساك بخيط الكتابة المتينة والمتقنة، دون أن تتنازل عن العاطفة، أو تُفرّط في الالتزام. لغتها مزيج فريد من البلاغة والرزانة، من الشجن والتحليل، حيث تشعر أنك تقرأ نصًا يُخاطب القلب والعقل في آن.
في وقتٍ باتت فيه الصحافة العربية تئنّ تحت وطأة التسييس والتسطيح، تفرض ريتا حضورها كعلامة فارقة، وكصوت لا يمكن تجاهله. إنها لا تكتب فقط، بل تُنقّب، تُصغي، وتعيد بناء الذاكرة من جديد.
ريتا بولس شهوان ليست فقط صحافية أو باحثة. إنها ذاكرةٌ حية، وقلمٌ يقاتل كي لا يُمحى الوجع، ولا يُشوَّه التاريخ، ولا تُطفأ الأسئلة.