شارك في الحفل كلٌّ من الشعراء: د.راشد عيسى، ومريم الصيفي، ولؤي أحمد، ووردة سعيد، وأدار القراءات وعرّف بالشعراء الدكتور سالم الدهام.
واستهلّ الحفل مدير بيت الشعر- المفرق فيصل السرحان الذي أزجى تحيّةً عابقةً بالشكر والعرفان لمبدعي الأردن والعرب من الشعراء والشاعرات في مناسبة كبيرة بحجم يوم الشعر العالمي، وللإعلاميين والصحفيين وهم يسيرون مع الإبداع لحظةً بلحظة، ليشهدوا ويباركوا عطاء بيت الشعر- المفرق، واستمراره طوال عشر سنوات من تأسيسه، وقد سعى ليكون منبرًا للإبداع الأردنيّ والعربيّ، كما أراد له صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، الذي وجّه مشكورًا بتأسيس هذا البيت عام 2015، وكذلك تأسيس عدد من بيوت الشعر في الوطن العربيّ؛ فكانت النتائج مثمرة وتصبُّ في أهميّة هذه المبادرة الكريمة، التي قدّمت أجيالًا من شعرائنا الشباب الذين أخذوا عن الشعراء الرواد الكثير من الإبداع، وكان لهم صوتهم الخاص الذي جاء نتيجة الجدّ والاجتهاد والاطلاع والثقافة، وهو الهدف والرسالة والنهج الذي يسير عليه بيت الشعر- المفرق، على الدوام.

وأضاف السرحان: في اليوم العالمي للشعر، ارتأينا أن نجتمع في رحاب دائرة المكتبة الوطنية، هذا الصرح الثقافي الأردني المميز، وأن نجدد احترامنا للقصيدة العربية وهي تصوغ الوجدان، وتعبّر عن مكنون النَّفْس، وتتألق في سماء الإبداع.
وأكّد السرحان أنّ القصيدة العربيّة لن تندثر، وسيظلّ الشعر ديوان العرب، وستبقى الكلمة هي الأساس في رفعة الأمم وحضارة الشعوب؛ فكيف بأمّتنا العربيّة الضاربة جذورها في الإنجاز والريادة في شتّى ميادين الحضارة والإبداع؟!
كما تحدث السرحان عن أهميّة الاحتفاليّة في تقديم أصوات إبداعيّة متنوعة، كجزء من الإبداع الشعري الأردني في شتّى الميادين والمجالات.
رسالة عاجلة
من «رسالة عاجلة إلى الشعر»، قدّم الشاعر والناقد د.راشد عيسى، نصًّا مشغولًا بالعتاب والغياب والمعاني المستبطنة، كما طوّع فصل الخريف في بكائيات حملت أكثر من معنى ذاتي وجمعي.
وأرسل عيسى في رسالته للشعر تولّهاته وجوانحه وجوارحه وابتهالات اليمام، مُطَمئِنًا صديق العمر «الشعر» بأنّه- الشاعر- ما يزال بخير، ويستشفي بموسيقى الحروف ويستكنُّ، وهو الكفيل بالحياة وابتسام قلب الوجود وأنينه، كما حملت الرسالة أنّ الشاعر ما يزال يرعى في هضاب الشعر سرب أحلامه، حاملًا مخياله مثل ناب الذئب، بل ومؤتنسًا بزنبقةٍ تشقّ الصخر، متوحّدًا بعزيف جنّ.
كما دعا الشاعر عيسى الشعر أن يقف به على جبل الكناية، لتسير القصيدة الطويلة التي دخلت فيها مفردات العسل، وأيقونة الشعر.
وبرز عتاب الشاعر للشعر بأسلوب مجازي تفاعل معه الجمهور، كما في مقاطع الوهم التي ظلّت تتدفّق وتؤكّد خلوّ الشاعر من صديقةٍ أو ظلال صديقة، فهو يلحق هذا الوهم وينتشي بسحابة كذّابة كانت تحلّق في سماء الكبرياء، وهو نيران ماء، كما قال. وبحث الشاعر عيسى عن الحقيقة في هذه الرسالة، طالبًا أن يعذر الشعر خطاه، ويطير به إلى المعنى الحرون طمعًا في الحقيقة. كما جاء عيسى بامرئ القيس وطموحه والشنفرى والبحتري وابن زيدون وولادة وقيس والمعري، ملتقطًا صفاتهم وأمنياتهم، ومؤكدًا الشعر أرجوزةً للصحراء وسفيرًا للظلمات في ليل القلوب.
وبرز في القصيدة الخريف والرغيف، وما يتخللهما من رحيق ورد الشعر، كما فرّ الشاعر عيسى من العتمة إلى الشعر مانع الغروب، مفتخرًا بنفسه عرّابًا للنجوم إذا «تحندست» الدروب، ليذهب مرحّبًا بالطيور التي تخلّى عن ضيافتها الشجر، مجاملًا النهر المكابر إن بكى عند المصبّ، محتفيًا بالزهر وهو يطلع من حجر.
العمر الكذوب
وحملت القصيدة/ الرسالة مكاشفة الشاعر الشعر وهو يجامل العمر الكذوب، طالبًا إشعال السراج ليضيء، فهو ما يزال في ذمّة الريح، فترك ظلّه في البوادي ساريًا في ليل معناه البعيد وفي هيامه، ليزداد طلب الشاعر بأن يسرّب الشعر حفيفه في عظامه ويعزف لحن البشارة، ليصبو إليه ويتقي وجعه المؤرشف في صناديق المرارة.
كما استتر الشاعر عيسى بأكثر من تورية بعد أن ضاقت أساريره بأسرار العبارة، مادحًا الشعر بالتجاء الحُبارى والظباء إليه، وهو الذي تستهيم به السنابل، شاكيًا من هجران الشعر الذي يكون سيفًا حاسمًا في الغضب ووردةً في في العشق.
وفي القصيدة لفت الشاعر عيسى بإحراج اللغة وقوّة دلالة العامي والمحكي، ونحت أفعال مما نعيش، وكذلك في تجاور الأسماء والأفعال ذات الجناس والأصوات المنسجمة، كقوله «ما أجملنّك أيّها العرّاف والشّواف والروّاغ واللدّاغ والحاسوس والناسوس يا سبحانه من كوكبك!!»، وكذلك في ضمير الشاعر الذي برز في أكثر من موقع، كقوله «ما أكثرنّي»، و”ما زلتني».
وبين قرب وبعد، ظلّ الشعر «ينعنع» شوك مفردات الشاعر، و”يسوسن» رؤياه، و”يُبستِن”حقل الشاعر، لتخضرّ لغته وشجر عنفوانه، فتختتم هذه الرسالة بلهفة الشاعر أن يأخذه الشعر؛ فهو «الحنين»، و”الهنين»، و”الأنين»، وهو «شواظ العاشقين».
ومن القصيدة نقرأ:
يا شعر يا أيقونة التكوين
من بدء الخليقة،
أنا لم أصدّق أنّ لي يومًا
صديقًا أو ظلالًا من صديقة،
أنا لا أصدّق أيّ رعدٍ في شتاء،
كم عشتُ وحدي ألحق الوهم
الضليل، وأنتشي بسحابةٍ كذّابةٍ
كانت تحلّق في سماء الكبرياء
أنا لا أنا يا شعر- لو تدري- أنا نيران ماء
عرّج على كينونتي واعذر خطاي
واجلس قليلًا في أناهيد الشجا
وابعث مناك إلى مناي،
طر بي إلى المعنى الحرون لعلّني يومًا
أسمّيه الحقيقة
أنذا ببابك ساكنٌ، ومعي امرؤ القيس
انفرى
يحتاج «ملكًا أو يموت فيعذرا”
ومعي فؤاد الشنفرى،
وبحقل روحي يستجمّ البحتريُّ
وفي رواق مواجعي يبكي ابن زيدونٍ
على ولّادةٍ،
وأمام شهقة خاطري قيسٌ
يطارد طيف ليلى في السُّرى،
ووراء ظلّي ساهرٌ نجم المعري
كي أرى ما لا يرى.
شخص آخر
الشاعر لؤي أحمد كان يستثير الحضور بوقفاته المتأنية وقوافيه الفائيّة، والتقاطاته التي دأب عليها، في مفارقات جميلة، تاركًا الذائقة تتنقّل في أزاهير الشعر ورياضه، وهو يفلتُ من جسده، ليخرج شخصًا آخر، فيدير ظهره للحياة، معاينًا ندوبه وحرائقه. وفي قصيدته التي حملت عنوان «أفلَتُّ من جسدي»، اتكأ الشاعر لؤي أحمد على موروثه اللغوي، معتزًّا وواثقًا وطاعنًابالرمز والمجاز.
كما استطاع في اليوم العالمي للشعر أن يؤكد حضور شخصيّته الشعرية، وسيرورته في الحياة وتحوّل المحطات، وأن يلجأ إلى باطن الشعر ومقاصده كلّما أشكل عليه المعنى.
وإضافةً إلى هذه القصيدة، كان الشاعر لؤي أحمد يذهب إلى صفاء النيّة العاطفيّة والإحساس العذب، واستعارة الموروث بتقنيات حديثة، في قصيدة الشطر والعجز التي برع في تغذيتها بمعانيه وذهنياته ووجدانه الشفيف.
ومن قصيدة «أفلتُّ من جسدي»، قرأ:
أفلَتُّ من جَسَدي وكنتُ الـمُبتَلى
وخَـــرجـــــــتُ مـــنِّـــي آخـــراً مُــتــــبــــتِّــلا
وأدرتُ ظَـــهــري للحــياةِ وحــربـِــــهَــــا
فأَصَـبتُ مِن وَثـــنِ التــــعلُّقِ مَـقـتَلا
ما كُـنتَ يا جَـسدَ الحرائـــقِ آكلــي
حـتَّــى تكونَ بـمَنْ أَكـــلتَ مُوكَّلا
هــذي الــنــدوب الغــائـــرات طَـــريَّـــةٌ
قــــدْ زادَها الإيـــغَــــالُ فــيَّ تَــغـــوُّلا
أنَــا طـاعِنٌ فـي الرَّمزِ وجهةُ شَـــاعــرٍ
عَرفَ الـحقيقةَ في المجازِ فأوغَلا
مِن ظـاهـرِ الـمعنـى هـربتُ لـبــاطــنٍ
إنْ أشـــكلَ الـمـعنــــى عليهِ تــــأولا
حينَ استَعدْتُ قَصيدتي مِن واقِعي
أَعليْــــتُ فـيها عَـالَـمي الـمُتخيَّـلا
مُـتــــثَــائـــبـــاً أَصــــغَى الزَّمــــانُ كَــأنَّــــمـــــا
ملَّ انطفاءَ قَصائدِي فَــتملـــمَلا
يــا عُــقدَة النَّـــقــصِ التـي تَـحــتَـــلُّــنـــي
فـوقَ احـتمَــالي أنْ أظلَّ مُكـبَّلا
ألـهَـتــــنـــيَ الأضــــواءُ عَـمَّــن كُـنــــتُــــنـي
فكــأنَّـــنــي وكـــــأنَّـــــها لن نَـــــــأفـــــلا
أوجستُ خيفةَ أن أُرى بمدارها
قمرا على سِرب النجوم تغولا
بــعــيــــونــــهـــــــا لا ثـــالــــثــــــــا لا ثـــانــــــيـــــا
يـأبى فمي أن لا أكون الأولا
أشجان وأحزان
أمّا الشاعرة مريم الصيفي فقرأت من ديوانها «نقوش على كفّ الزمن»، الذي التزمت فيه الوجدان الوطني، عبر قصائد اعتادها جمهورها، وبرز فيها النداء والأفكار الصادرة عن شاعرة ملتزمة غلب على أبياتها الحزن والشجن والخوف وأغصان العمر والبكاء والغيهب وجفاف العود والبلابل الغائبة عن التغريد والشدو والأوتار التي جفّت.
ومن قصيدة «هجرة قصيدة»، قرأت الصيفي:
قصيدتي هاجرت للحزن والشجنِ
فانسلّت الروح من فكري ومن بدني
ناديتُ يا حرفُ، يا معنى، أتتركني؟
وليس في العمر بهجاتٌ لتؤنسني
أبكيه حرفًا تغذّى من عروق دمي
وصاغه ألمي لونًا به سكني
فيه انزرعتُ جذورًا مدّها قدري
في غيهبٍ ضاق عن سرّي وعن علني
فبتّ في مكمن الأحزان تأسرني
قبضات ريحٍ فلا تغريد في فنني
أغصان عمري ذوت والدمع أغرقها
فلا بلابل تشدو، والربيع فُني
قد جفّ عودٌ وأوتارٌ تؤرجحها
لواعج الخوف من همٍّ ومن حَزَنِ
أشكو لحرفي جفافًا في ربيع ندىً
كم كان يخضرّ فينا فات من زمنِ
تواتر القهر والأحزان جمّرَها
حريق وجدٍ تهاوى في مدى الوهَنِ
للعمر لونٌ توارى خلف غيم غدٍ
فغاب نورٌ وغيض الماء يظمئني
أبتُّ شكواي للحرف الْ مضى قُدُمًا
نحو الغياب فراح الفقد يطفئني
مرايا الواقع
وأخيرًا، قدّمت الشاعرة وردة سعيد عددًا من قصائد غلبت عليها أحزانها، واتكأت إلى الوصف ونقل الواقع، ضمن مفردات المرايا والموت والغيث والغيوم والريح والطير، ومن قصائدها، قرأت:
ما غادر الإنسان من متردم
إلا وقد وقعت عليه الرادمة
لم يرجُ غيثا والغيوم تزاحمت
بسمائه..خاف السماء الغائمة
والريح تغتال الرماد فلم يقم
طير ولو كذبا يُطمئن عالمه
هو غيمة ترنو لتلقي نفسها
وقيامة من كل صوب قادمة
