إبراهيم خليل
في ثمانينيات القرن الماضي تابع القراءُ من محبي الكاتب القاص فخري قعوار مقالاته شبه اليومية في صحيفة (الأخبار) المعنونة بعنوان ثابت هو (شيءٌ ما). وقد دأب على كتابة الخواطر، والحكايات، ذات النسق السردي القصصي الذي لا يبتعد كثيرًا عن النوع المعروف باسم القصة القصيرة. وقد اختار لهذه الحكايات بطلا متكررًا هو فرحان فرح سعيد. ومن الاسم الذي تخيَّره القاص متعمِّدا يتضح أن السخرية في هذه الحكايات هي لبّ الموضوع وجوهره. ذلك لأنَّ فرحانَ، في هذه الخواطر، والحكايات، يمثل نموذجا لابن البلد على رأي المصريين، فهو طيب إلى الحدّ الذي يمكن أنْ يوصف فيه بالغفلة، أو (الهبل) مثلما جاء في كلمة على الغلاف الأخير لكتاب يوميات فرحان فرح سعيد [دار الأفق الجديد 1982] فقليلا ما يرفض، أو يتذمر، أو يتمرد، في أمور بعضها يدعوه للرفض، والتذمّر، والعِناد.
وقد عُدْتُ إلى هذا الكتاب الذي ذكَّرني به الصديق الكاتب الروائي مؤلف رواية « أولاد عشائر» محمد حسن العمري – مع أنني كنتُ قد وقفت إزاءَ ملاحظة الراحل قعوار في كتابه من ليالي الأنس[ مكتبة عمان، 1990] الذي يقول فيه، عاتبًا على النقاد اهتمامهم بقصصه، وإضرابهم صفحًا، وطيّهم كشحًا، عن كتابه فرحان فرح سعيد:» مع أنني أعدّه أفضل كتبي» وفي أثناء قراءتي الجديدة لهذا الكتاب عثرتُ على عبارة في نهاية إحدى الحكايات يقول فيها: « إن فرحان شرع في اتخاذ تدابير سأبيّنها في حَلَقَة الغد»(ص79). وقد استوقفتني هذه العبارة التي أحَلْت مضمونها إلى ما جاءَ في كلمة الناشر، فهي تؤكِّد أن يوميات فرحان هذه كانت- أساسًا- حلقاتٍ تلفزيونية كتبها المؤلف، وأعد لها السيناريو، والحوار، وقام « بتحقيقها « الفنان الأردني نبيل صوالحة. والصحيح أنَّ هذه الكلمة « حقَّقها» لا تخلو من غموضٍ، ولَبْس. فالمعروف أن نبيل هذا ممثل كوميدي، ومن الجائز أن يكون هو الذي أدى في الحلقات دوْرَ فرحان، والإشارة لا تتضمَّن، لا اسم المُخرج، ولا أسْماء غيره من الفريق التلفزيوني، ويُذكر- ها هنا – أن المرحوم فخري قعوار كثيرًا ما تعاون مع المخرج موفَّق الرهايفة في مسلسلاتٍ إذاعية، وتلفزيونيّة، مثلما تعاون مع غيره من الفنانين.
ومما زادَ من غموض تلك الإشارة زعمُ الناشر أنها ثلاثون حلقة، والواقع أنَّ في الكتاب نيِّفًا وأربعين حكاية، لا ثلاثين فحسب. وأغلبُ الظنّ أن الكاتب الراحل جمع في هذا الكتاب جُلَّ ما نشره في زاويته شبه اليومية في الأخبار» شيءٌ ما « دون أن يكون في نيَّته الاقتصار على حلقات المسلسل المذكور وحدَها. ولذلك يجد القارئ، في بعض هذه النُصوص، ما لا يكفي لتقديمه في ساعة تلفزيونية كاملة، ولا حتى في نصف ساعة.
هاجسٌ اجتماعيّ:
ففي الخاطرة الأولى التي اختار لها عنوانا ذا بريق خلاب، يتجاوب مع هاجس المؤلف الغلاب، وهو (ترشيد استهلاك) اختيارٌ يتّفق مع ميوله، وعنايته الشديدة بهموم الفئات الفقيرة المسحوقة في المجتمع. فنجد الطفل فرحان يقترح على عائلته بيع التلفزيون الذي سئم مما يُبثُّ فيه من دعاياتٍ مُتَلْفَزَة تحبِّب إلى الصغار الحياة الاستهلاكية، معتقدًا أنهم، ببيع هذا الجهاز، يلتفتون لما هو أهم من تلك الدعايات، ولا يضيعونَ الوقت. علاوة على أنَّ بيع التلفزيون يعود على الأسرة بفوائدَ ماليَّةٍ جمّةٍ، أولها الحدّ من ارتفاع فاتورة الكهرباء، وتجنّب دفع رسوم اقتناء الجهاز كلّ شهر.
تبدو أفكار فرحان، في هذه الحكاية، وهواجسُه، أكبرَ مما ينشغل به عقل طفلٍ مؤدب، ومجتهد، وقنوع، يضيق ذَرْعًا بالدعايات التي تشجِّع، بلتحثُّ على امتلاك أصناف من الساعات الفاخرة، والمسجّلات، والأجهزة الكهربائية، ومساحيق التنظيف، والتجميل، والملابس الغالية؛ من ولادية ونسائية ورجالية، أي أن المؤلف أسند لهذا النموذج الذي يوصف بالطائش تارة، وبسيّء التصرف تارة، إذ يقلب بحركاته إبريق الشاي، وينفذ بجلده، ولا يجتذبه المسلسل المصري، على الرغم من أن أفراد العائلة جميعًا يتابعونه بإصرار، وينتظرون الحلقات التالية بفروغ صبر، وعلى أحرِّ من الجمر. فالمؤلف مع ذلك يسند له دورًا لا يتلاءَم مع عمره الزمني.. والعقلي.. ما دام طفلا يحاول بصعوبة حلَّ الوظائف، والتمارين المدرسية التي كلَّفه بها المدرّس. مع ذلك اسْتطاع، أي المؤلف، توجيه رسالة للقارئ؛ وهي عدم الرضا عما يُبثّه التلفزيون من دِعايات تغري الناشئة، وغير الناشئة، بالاستهلاك، ونبَّه على ضرورة اللجوء لما يمكن أن يُقلِّل من ارتفاع فاتورة الكهرباء، منتقدًا موضوع رسوم التلفزيون التي تُدفع كلَّ شهر، إذ يكفي أن تُدفع مرةً واحدة.
أرخميدس:
وفي الحكاية التالية، وهي بعنوان «وجدتُها! وجدتُها!» يجد القارئ نفسه أمام الموضوع ذاته، وهو الحاجة الماسَّة للمال، في وضع يشكو فيه فرحان من الفقر، وقلة ذات اليد. كبُر، ودرَس، وتخرّج من الجامعة. وعمل في التدريس. وشعر بحاجته لبيْتٍ، ولزوجة تملأ البيتَ أطفالا. واستعرض هذه الاحتياجات أمام أبيه الذي نصحه بالانتحار، فهو أقلُّ كلفةً من زواجِهِ. لكنَّ فرحان لم يقمْ بالانتحار، واستطاع أخيرًا، بدعم أشقّائه، أن يتزوَّج، وكثُر عددُ أبنائه، وبهذه الكثرة كثُرَتْ النفقات، والمصروفات، فإلى جانب أجرة البيت، ثمة فواتير للماء، وأخرى للكهرباء، وتُقتطعُ من راتبه ضريبةٌ على الدخل الذي لا يكفي، إلى جانب أثمان الخضار، واللحوم المستوردة، وزيارة المؤسسة المدنية الاستهلاكية مرّةً كلَّ شهر. وسرعانَ ما اتضح له أن السواد والبياض يختلطان في شعر ذقنهِ المخْشَوْشِن. واكتشف أنَّ ملابسه أضحت قديمة. وصفوة القول أنه، مثلما يقال في الأمثال، أصبَحَ على الحديدة.
وتلوح في الأفق بارقة أملٍ بقراءَتِه ذاتَ صباح خبرًا في إحدى الصحف اليومية مفادُهُ أن مسؤولين كبارًا يتحدثون عن استراتيجية تربوية جديدة سيجري البحثُ فيها، ومناقشَتُها، وتطبيقها في الثمانينات. وظل يتابع ما يُنْشر عن هذا الموضوع طوال الاثني عشرَ شهرًا التالية. ولاحظتْ زوْجَتُه أنه يضربُ براحةِ يدهِ على جبينه كما لو أنّه يتذكــّرُ شيئًا نسيَهُ من زمن طويل، فظنَّت أنه جُنَّ، وهو يقول بملء فيه:
– وجدْتُها! وجدْتُها!
لاحظ فرحان نظرة الحذَر، والشكّ، في عيني زوجته، فقال لها مُطَمْئِنًا: ثمة استراتيجية تربوية لعقد الثمانينات، وسوف تُنْقذنا من هذا الفقر. لكن الزوجة لم تبالِ بما قال، ولاذَتْ بالصمت.
ولو كان الشخص الذي نُسبت له هذه الوقائع شخصًا آخر غير فرحان، لما ترَتَّب على ذلك فرقٌ يذكر، لا في المحتوى، ولا في النسيج السرديّ السلس. بيد أنَّ الكاتبَ، بإصراره على أن هذا هو ما كان من شأن فرحان، ُيجرّد منه نموذجًا عامًا يصلح أن نرى فيه تمثيلا لأيِّ شخص آخر في هذا المجتمع، وفي هذه الأوضاع. فليس من الطبيعي أن يقول القاصّ، الذي حدثنا عن فرحان سابقا- كبر فرحان، ودرس، وتخرج من الجامعة، وعمل مدرِّسًا، وتزوج، وامتلأ بيته أطفالا، في فقرة واحدة، أو اثنتين، إلا إذا كانَ يفترض في فرحان اسمًا على غير مسمّاه. فهو يشبه أبا الفتح الإسكندري- بطل المقامات التي كتبها بديع الزمان الهمذاني(ت 398هـ) في القرن الرابع الهجري، أو أبا زيدٍ السروجيّ – بطل مقامات الحريري التي كتبها في القرن الخامس وبعض السادس(ت 516هـ) – فكلٌ من الكاتبيْن، وفخري قعوار، يسعى لانتقاد الأوضاع بأسلوبٍ ساخِرٍ، وهزْليٍّ، وتبَعًا لذلك لا يختلف الأمْرُ إن كان ما يُرْوى خاصًّا بفرحان، أم بغيره.
وممّا لا ريْبَ فيه، ولا شكّ، أنَّ فخري قعوار يسخرُ من الوضع العام الذي يمرُّ به أبناءُ البلد، لا سيما أولئك الذين أدركتهم حرفة التعليم. فما يتقاضونه من رواتب ضئيلة تدفع بهم أحيانا للبحث عن عمل آخر: تدريس خصوص، سائق سيارة سرفيس، بائع في محلّ للخضر، أو أيّ مواد أخرى، وأما فرحان – ها هنا – فقد ضاقتْ في وجهه السُبُلُ، وظنّ في الاستراتيجية التربوية لعقد الثمانينات حَلّا، ويا ليتَهُ وجد فيها الحلّ المرجوّ.
ما أقلَّ الثمن!:
ولا رَيْب في أنَّ هذه الحكايات المطَّردة، حكاية تلو الأخرى، مستقلة بعضها عن بعض، فالعلاقة بينها لا تعدو تكرار الاسم فرحان، وتكرارَ الأجواء التي يهَيْمن عليها الفقرُ، والعَوَزُ، والحاجة الماسَّة للمال، والسعْيُ لتغيير الواقع الاقتصادي شِبْه الطبقي. فهاجسُ البطل الأساسيّ هو أن يثري، ويعيد النظر فيما حوله من أثاث، وأجهزة كهربائية، وابتياع ما يحتاج إليه، هو وأبناؤهُ، من ملابسَ جديدةٍ. ففي حكايةٍ منها يغامرُ فرحان، ويقرر شراء ورقة يانصيب، ولكنَّ ما في جيبه من النقود لا يكفي لشراء ورقة كاملة، فيكتفي بنصف ورقة. وقد اعترضته الظنون فالأرقام 7 و8 و3 و4 أرقام يتشاءَم منها، فهي ذات فأل سيء، وبعد حيرةٍ، وتردُّد، يقرّر شراء نصف البطاقة رقم 19631 على الرغم من أنّ الرقم 3 واردٌ فيها. ويعود إلى بيته متهلّلَ الوجه، مشرق الأسارير. وهذا مشهد غير عاديّ في نظر الزوجة التي أمطرته بوابلٍ من الأسئلة: ماذا يا فرحان؟ هل سرقتَ من أموال البلدية؟ هل أخذت من العطاءات؟ بسبب الإلحاح أفضى إليها بأسْرار الفرح الذي يغْمُرُه، فقد اشترى نصف ورقة يانصيب. وهذا في رأيه وعدٌ بالثراء لا يخيب.
وفي يوم إجراء السَحْب لمعرفة الأرقام الفائزة، وعَدَ أصحابه بوليمة غداء، وشرع في اللحظة التي عرض فيها التلفزيون النتائج يُحدّق في الدواليب، فيما أخذَ قلبُه في الخفَقان، وعيناهُ شرَعَتا بالانتظار، ولم يكنْ رقمُ بطاقته بين الأرقام الفائزة. فغادر غرفة الجلوس إلى فراشه، ونام على وجههِ حتى الصباح.
وفي ظهيرة اليوم التالي فوجئ بزملائه يحضُرون في الموعد المرتَّب لتناوُل الغداء على وَفْق الدعوة. ولم تكن الخسارة تقتصر على ثمن نصف البطاقة فحسب، بل تبعتها خسارة المنسف المحترم المزيَّن باللوز والصنوبر والبقدونس.
تُذكِّـرُنا هذه الحكاية من حكايات فرحان بقصة « ما أقلَّ الثمن!» لمحمود سيف الدين الإيراني. فبطلها سعيد لم يكن له من الحظ السعيد إلا الاسم. ابتاع بطاقة يانصيب، ثم قضى بِضعة أسابيع يحْلُم بالثراء، وبتغيير الأثاث، ودكان الخياطة، والرفوف التي ستُملأ بالأجْواخ، وغرْفة القياس. ثم كانت النتيجة يوم السحب خسارة الجائزة، لكنه لم ينْدم؛ فالأيام التي قضاها حالمًا بالثراء لم تذهبْ سُدىً « فما أقل الثمن!».
وهي قصة تذكرنا بأخرى للكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف أيضًا، وعنوانها بطاقة اليانصيب The Lottery Ticket (1) ولا يفوتنا أنْ نذكــُـر فرقًا بين قصتي قعوار، والإيراني، من جهة، وقصة تشيخوف. ففي هذه القصة (ماشا) زوجة إيفان ديمتريش هي التي كانت قد ابتاعَتْ ورقة اليانصيب، لا إيفان، مثلما هي الحال في القصَّتين الأخْرَيَيْن. وهي التي كانت تؤمنُ بالحظّ خلافًا لزوجها الذي تذكــّـر موعِدَ السحب فيما كادت تنساه، وبنى آمالا كبارًا على فوزهما بهذا اليانصيب. ولذا قضى هو الآخر أسابيع يحلُم بالثراء قبل أن يتأكد من صدْمَة الخسران. وَيتَّضح أنّ الكتّابَ الثلاثة: تشيخوف، والإيراني، وقعوار، يسخَرُ كلٌ منهم من هذا النموذج البائس (إيفان، سعيد، فرحان) الذي يلجأ لهذه الوسيلة من أجل أن يغيّر واقِعَه الاقتصادي، فيلازمه حَظُّه التَعِس.
مبالغة في غلوّ:
ومن يقرأ الكتاب كاملا، حكاية تلوَ الحكاية، يعْجبُ أشدَّ العَجَب من أنَّ الراحل فخري قعوار يعُدّه أفضل من كتبه الأخرى التي صدرت قبل العام 1990. مع أنه لا يعدو كـوْنَه مجموعةً من المقالات الصحفيّة شبه القصصية، أو الخواطر، والصُوَر القلَمِيَّة، التي نشرها في مناسباتٍ متباعدة في زاوية يُهيْمنُ عليها الأسلوب الصحفي المبسَّط الذي يَطْغى عليه الخبَرُ، وتغلب عليه السُخْرية. وهي – أيْ السخرية – الحافزُ القويُّ الذي يشجّع المتلقي على قراءتها في شغَفٍ، لكنها – مع ذلك – إذا قورنَتْ بقِصَصِه، سواءٌ منها تلك التي نُشرت قبل عام 1990 أو بعده، مثل: لماذا بكت سوزي كثيرا (1973) أوْ ممنوع لعب الشطرنج (1976) أو أنا البطريرك (1981) أو البرميل (1982) أو أيوب الفلسطيني (1989) أو دَرْبُ الحبيب (1996) أو مختارتيه: حلُمُ حارس ليلي (1993) والخيلُ والليل (2009) فإنَّ نتائج هذه المقارنة لا توحي بدقَّةِ ما يرمي إليه فخري قعوار من أنّ فيها من الإبداع، والخَلْق، ما يجعلها الأفضل فيما ألف، وأبدع. ولا يأنس القارئُ، في هذه الحال، لرأي المؤلف في فرحان فرح سعيد، ويعُدُّه ضربًا من المبالغة التي ترْقى إلى حدّ الغُلوّ. ولا عجبَ في هذا؛ فالكتّابُ، كالشُعراء، لهم آراءٌ في أعمالِهِم تخالفُ آراءَ القرّاء، وآراءَ النقّاد، وقد تخالفُ الحقيقة، والواقع.
***
1.نشرت قصة ما أقل الثمن في مجموعته التي تحمل العنوان نفسه، ط1، عمان: دون ناشر، 1962 ص 85 وما بعدها. أما قصة تشيخوف فقد اعتمدنا على كتاب Brooks & Ben Warren,(1975) An Approach to Literature ,New Jersey, 5th ed ,pp 69- 72.. وانظر كتابنا « مقدمات لدراسة الحياة الأدبية في الأردن» ط1، عمان، دار الجوهرة، 2003 ص 217- 245 .