أفردت مجلة أفكار الثقافية الشهرية التي تصدرها وزارة الثقافة في عددها الأخير الثالث والثلاثين بعد الأربعمئة الصادر في شهر شباط من العام الجاري، ملفًّا خاصًّا للوقوف عند جهود العلّامة والمؤرخ الكبير الأستاذ الدكتور محمد عدنان البخيت رئيس المجمع، بعنوان: «المؤرخ الدكتور محمد عدنان البخيت؛ مسيرة حافلة بالبحث والعطاء».
وقدّمت لملف العدد الأكاديمية والباحثة الدكتورة هند أبو الشعر، تحت عنوان «محمد عدنان البخيت، أستاذًا وباحثًا ومؤسسًا»، من باب تكريم قامة فكرية وثقافية في ملف خاص في مجلة الثقافة والفكر الرائدة في الوطن؛ حيث إن تأثير هذه الشخصيات الذي يحفر في الفكر والعقل والوجدان يأخذ زمنًا ليكون مثل مجرى النبع الذي يستمر في التدفق بلا أجندات ولا برامج أو حسابات، ومثل هذه الشخصيات التي تشكّل فكر الأجيال ومنهجها تبقى ماثلة في تجليات العقول ومنجزات الفئات التي تتلمذ عليها، كما جاء في تقدمة الدكتورة أبو الشعر.

وعن تكليفها بإعداد هذا الملف المهم، قالت أبو الشعر: «إن تقديم مفاصل هذه الشخصية الفكرية وجهودها الأكاديمية الكبيرة في ملف محدود، يضع المُعدّ أمام صعوبة اختيار المشاركين، فكل تلاميذ الدكتور محمد عدنان البخيت يتمنون المشاركة، وهم اليوم من أصحاب القلم والفكر والمواقع الأكاديمية المعروفة، كما أن اختيار المحاور التي تمثل تجربته تحتاج لمؤلفات.
وكان علينا أن نقنع بمحاور قليلة تضيء التجربة الثرّة للأستاذ الذي حفر عميقاً في حياتنا الأكاديمية والفكرية والمنهجية، وأرسى قواعد راسخة في العمل المؤسسي أصبحت مدرسة في تأسيس الجامعات وإدارتها، وتميز بتأسيس المدرسة التاريخية المعروفة بمنهجها الرفيع التي امتدت مع تلاميذه إلى كل المواقع الأكاديمية حيثما عمل طلابه في جامعات الأردن وفلسطين والخليج العربي والعراق وحتى في الدول الغربية، كما أن تأسيسه لمركز الوثائق والمخطوطات ودراسات بلاد الشام يُعدّ حالة فارقة في حياتنا البحثية والأكاديمية، فضلاً عن إدارته لهذا ال?رفق المذهل الذي نقل وثائق ومخطوطات العالم إلى الجامعة الأردنية، وجعله محجًّا للباحثين من كل أنحاء العالم حسبما نعرف ونشاهد.
وإن تقديم ملف يسلّط الضوء على شخصية استثنائية حفرت بعمق في حياتنا الفكرية والأكاديمية والإدارية والإنسانية ما هو إلا ومضة من ضوء، تقدم للقارئ العربي شخصية نعتز بها ونثمن جهودها، ونستضيء بنورها الذي أضاء فكر وعقل أجيال وأجيال».
مجمع اللغة العربية
وجاءت المساحة الثانية من الملف بعنوان «د. محمد عدنان البخيت مجمعيًّا ورئيسًا للمجمع: تتويج لمسيرة حافلة» بقلم الأكاديمي والباحث الأردني وعضو المجمع الدكتور همام غصيب الذي تطرّق في مقالته إلى بداية معرفته بالدكتور البخيت في الجامعة الأردنية في منتصف الثمانينيات، حيث كان عميدًا للبحث العلمي، وقدّم في شهادته: «كان تأثيره واضحًا، وصوته مسموعًا. ولا عجب فهو يتولى، بحكم منصبه، رئاسة تحرير مجلة الجامعة المحكّمة «دراسات”؛ ورئاسة المجلس العلمي في الجامعة الذي ينظر في دعم الباحثين ومشروعاتهم البحثية، بكل ما يعنيه ذل? من شؤون وشجون؛ إضافةً إلى مركز الصدارة في لجنة التعيين والترقية المنبثقة عن مجلس العمداء، والإشراف على جميع منشورات الجامعة الأكاديمية».
ثم انتقل للحديث عن جهوده عبر خدمته في كل المناصب التي تولاها أو المراكز والجامعات التي أسسها وصولًا إلى دوره في مجمع اللغة العربية الأردني بدءًا بعضويته ومروراً بتسلمه منصب نائب الرئيس، وختامًا بالإجماع من مجلس المجمع على انتخابه رئيسًا له. وقال د.غصيب في هذا المقام: «أولى لجان المجمع عناية خاصة؛ لأن «المجمع بلجانه». وحرص على أن يحضر جانبًا من اجتماعاتها كي يطّلع على جوهر الأمور. وهو لا يُقْدِمُ على شيء إلا بعد استشارة الأقربين إلى الموضوع من أسرة المجمع وسواها. ويكفي أن نراقب عن كثب كيف يدير اجتماعات المك?ب التنفيذي؛ فيحتوي جميع الآراء المطروحة بحكمة جليّة وصبر جميل؛ ويُنجز جدول الأعمال بسلاسة وأريحية. كما أنه يُتابع كل صغيرة وكبيرة. فمثلاً، يستمع إلى جميع برامج إذاعة المجمع، ويبدي ملاحظات دقيقة وذكية عليها. ويُتابع الإعلام المحلي والعربي عمومًا المتصل بشؤون العربية وشجونها. وهو مُستمع ماهر. ويفعل ما يقول. وقيادته من نوع «السهل الممتنع”؛ فلا يشعر الناس أنه يقود! وهذه فضيلة كبرى، خاصةً في مؤسسة كالمجمع. ويُعزز ذلك بشمائله المعروفة التي جعلتني أصفه بـ”الشيخ ابن الشيخ». وأهمها: النزاهة والإيثار والموضوعية. ولا?ننسى دعاباته الذكية وسرعة بديهته».
جامعة آل البيت
وسطّر المساحة الثالثة في الملف الأكاديمي والباحث العراقي الدكتور حسين القهواتي تحت عنوان: «محمد عدنان البخيت مؤسساً لجامعة آل البيت”؛ حيث عُرف الدكتور البخيت بالكفاءة والنزاهة والتجربة فقد صدرت الإرادة الملكية السامية بتعيينه رئيساً لجامعة آل البيت التي أرادها الحسين جامعة إسلامية عالمية تسعى في مسيرتها إلى التجديد والاجتهاد في جو من الوسطية والاعتدال.
وهنا عمل البخيت- كما جاء في شهادة القهواتي -على تدشين المرحلة الأولى والأهم في التأسيس والتخطيط؛ حيث كانت مساراته الأربعة تنفذ على نحو متوازٍ وفي آنٍ واحد، وقد تمثّلت في تطوير المعسكر المخصص للجامعة في مدينة المفرق، وتحوير مبانيه بما يتناسب ومتطلبات الجامعة وزراعة أراضيه الجرداء، وإعداد المناهج النوعية التي تعبر عن أهداف الجامعة الإسلامية العالمية، واختيار أعضاء هيئة التدريس من الأقطار العربية والدول الإسلامية وغيرها، والسعي لقبول طلبة تلك البلدان.
ولتنفيذ هذه المسارات اتخذ البخيت مقراً مؤقتاً له في جناح من الجمعية العلمية الملكية في عمان باسم «مكتب الارتباط» لحين تسلم مباني المعسكر رسمياً، واختار كادراً للسير معه في متابعة الإجراءات التمهيدية اللازمة للتأسيس، وشكّل منهم دوائر أربعًا أساسية هي المالية وشؤون العاملين والعلاقات العامة والهندسة والصيانة.
هكذا كانت البداية لمشروع كبير وطموح، لا يستطيع أي شخص إنجازه إلا من امتلك العزم مع الحزم، والحكمة مع الجرأة في اتخاذ القرار، فضلاً عن التجربة.
كما أحيا البخيت أرض الجامعة الشاسعة القاحلة وحوّلها إلى غابات من الأشجار النضرة، في وقت قياسي، كان العقل يعجز عن تصديقه على الرغم من أن العين كانت تراه.
وعمد إلى اختيار أسماء للمباني من التراث العربي الإسلامي، وكانت الأسماء تعبّر في الغالب عن مهام شاغليها، فاختار على سبيل المثال لمبنى كلية الدراسات الفقهية والقانونية اسم «الإمام الغزالي» ولمبنى كلية الآداب والعلوم «البيروني والبخاري» على التوالي ولمبنى كلية الإدارة والاقتصاد اسم «القاضي أبي يوسف» ولمبنى معهدي بيت الحكمة وعلوم الفلك والفضاء «علي بن أبي طالب»، ولعمادة شؤون الطلبة «عثمان بن عفان»، وأطلق على مركز الحاسوب اسم «الخوارزمي».
ولم ينسَ تسمية الشوارع المؤدية إلى تلك المباني بأسماء دالة، فهذا شارع دمشق وتلك شوارع بغداد وأصفهان والجزائر واستانبول وفاس والأقصى والقدس وتونس وصنعاء وغيرها الكثير، كما أطلق على ساحات الجامعة أسماء جامعات إسلامية اشتهرت في العصور الوسطى الإسلامية، فهذه ساحة الجامعة المستنصرية وتلك الساحات بأسماء جامعات أخرى مثل: القرويين، والنظامية، والأزهر الشريف.
فكان المتجول في فناء الجامعة يومذاك، وكأنّه سائح من غير جواز ولا متاع، يسافر بين مدن الإسلام وأقطاره، من كثرة ما يقرأ من أسماء مدنها وأسماء علمائها، وجامعاتها، ومتنزهاتها وهي مدونة في واجهات المباني وعلى اليافطات الدالة عليها، ومما كان يشاهد من تنوع في جنسيات طلبتها وأساتذتها، إنَّه إنجاز فريد وعظيم لمؤسس قلّ نظيره.
كان الرئيس المؤسس المثابر يبدأ عمله في الجامعة في ساعة مبكرة من الصباح، قادماً إليها من عمان، قبل بدء الدوام، يتجول بين الأشجار المزروعة حديثاً في أرجاء واسعة ومتفرقة من أرض الجامعة، ليرى العطشى منها التي ينقصها الري، والمرضى التي تحتاج إلى رش المبيد أو التسميد. وبعدها يتنقل بين المنجرة والمحددة ليطّلع على ما أنجز فيهما من عمل، ثم يتوجه إلى المختبرات والمطاعم وسكنات الطلبة، ليتعرف على حاجاتها من الأجهزة والمواد، وهكذا حتى ينتهي من آخر مرفق في الجامعة.
فإذا وجد نقصاً في زيارته اليومية في أي موقع يحاسب المسؤول عنه بحزم وأحياناً بقسوة، ولم يسامح أحداً أهمل أو قصر، وبالمقابل كان يثمن جهد من قام بواجبه وأتقن عمله.
ولم يكتف الرجل ذو الطاقة الخلاقة بهذا القدر من المتابعة اليومية، وإنما كان عليه أن يقابل الضيوف القادمين إلى الجامعة يومياً، للمباركة والتهنئة بتأسيس الجامعة التي ذاع صيتها لا في الأردن فحسب وإنما في أقطار عربية وإسلامية وأوروبية.
فبلباقة حباه الله بها وعذب الكلام، كان يقابل ضيوفه، ويرسم لهم صورة الجامعة العلمية الإسلامية العالمية، ويحثهم على دعمها وإرسال الطلبة إليها.
وفي الختام يشير القهواتي إلى أن الجهد الفريد والمبدع والمتنوع الخلاق، لمؤسس جامعة آل البيت لا يمكن اختصاره في صفحات؛ لأن الرجل الكبير، فضلاً عن نجاحه الباهر في تأسيس الجامعة وتجهيزها، وتميزه في إدارتها وتفوقها، كان أيضاً أستاذاً لامعاً وتربوياً قديراً وباحثاً رصيناً.
جامعة مؤتة
وفي الشهادة الرابعة التي سطّرها بحقّ مؤرخ الأجيال، كتب الأكاديمي والباحث الأردني الدكتور فايز القيسي، بعنوان: «الإشراق الثقافي في جامعة مؤتة زمن البخيت»، حيث كان البخيت الرئيس الثالث الذي قاد الجامعة عبر سنوات مثلت مع من سبقوه كما يقول القيسي فجر الجامعة المشرق، ورسموا بريشة المجد والفخار وجهها الصبوح، وظلوا أوفياء لمعاني الرسالة التي حملها فرسان معركة مؤتة، تلك الرسالة الحضارية التي حولت المعركة الفاصلة في تاريخ أمتنا إلى جامعة متميزة وبوابة مشرعة نحو التقدم والإبداع والقوة والمنعة.
فمثّلت رئاسته للجامعة على قصرها مطلع ضحاها وقد صرّف أيامه حتى أنجز ما كان بعيد المنال في ميادين التدريس والبحث العلمي وخدمة المجتمع، ومما ساعد على ذلك التوسّع في إنشاء وتطوير البنى التحتية من مباني كليات ومختبرات وقاعات تدريس ومدرجات وغيرها، إضافة إلى تشجير الحرم الجامعي ومسالكه ودروبه، وغدت الجامعة في مستوى الآمال الكبيرة المعقودة على إنشائها في إعداد متخصصين في العلوم والآداب والفنون وغيرها ليسهموا في النهضة العلمية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية في الأردن والوطن العربي الكبير، ويواكبوا الركب الإنساني?المنطلق في مجالات الفكر والإنتاج والإبداع وليتمرسوا بأصول البحث العلمي ومناهجه وليضعوا خلاصة عملهم، ونتاج بحوثهم وابتكاراتهم في بناء بلدهم، وخدمة أمتهم وسائر بني الإنسان.
ويستطيع الناظر في الإنجازات التي حققتها الجامعة في تلك الفترة التي لم تتجاوز سنة ونصف، أن يدرك أن البخيت كان يملك رؤية عميقة للدور الحضاري لجامعة مؤتة، وتمكّن أن يحول تلك الرؤية التي يؤمن بها إلى وقائع يومية أسهم في صياغتها وتحقيقها معه أبناء أسرة الجامعة بجناحيها العسكري والمدني في آن واحد.
لقد عمدت الجامعة خلال فترة رئاسة البخيت إلى رسم رؤية ثقافية أصيلة عميقة تكفل لها القيام بدورها الثقافي في جنوب الأردن لتبقى جامعة نابضة بالحياة الثقافية ماضية إلى الأمام، تسعى إلى ازدهار الأدب والفن والفكر دون انقطاع وإلى المساهمة مع المؤسسات الثقافية في جنوب الوطن في بناء مجتمع أردني واع يأخذ الحكمة النافعة ويقتبسها أنّى وجدها، ويمنحها حياة جديدة، مجتمعاً حياً -يستمد وجوده واستمراريته من الجمع بين الأصالة والمعاصرة، وقد جاء ذلك من الإيمان العميق بأنه لا يمكن أن تكون هناك تنمية وطنية شاملة دون أن تكون هناك?تنمية ثقافية جادّة ومخلصة.
لقد استطاع البخيت، خلال مدة قصيرة، أن يحوّل هذه الرؤية التي يؤمن بها إلى وقائع ثقافية يومية قريبة من المجتمع الجامعي أولاً، والمجتمع المحلي ثانياً، والمجتمع الأردني ثالثاً. وقد تمثّل ذلك في عدد من الإنجازات الثقافية، كان أبرزها إصدار المجلة الثقافية «راية مؤتة» وإصدار صحيفة مؤاب الطلابية وإقامة الموسم الثقافي والندوات الثقافية والنشاط المكتبي وإقامة معارض الكتب واستخدام الثقافة أداة للتغيير الاجتماعي والتربوي والتعليمي الإيجابي وتفعيل دور النشاطات المسرحية والموسيقية وغيرها من البناء الثقافي وإنشاء لجنة لإ?ياء التراث المحلي ومشروع «فنانين من الجنوب».
واختتم القيسي شهادته «لقد شهدت جامعة مؤتة -في ضحاها في ظل رئاسة البخيت لها- إشراقاً ثقافياً باهراً، فأسهمت بصيغ متعددة في مسيرة الوطن الثقافية نحو الرقي والتقدم، حتى غدت طوال سنة ونصف من عمرها كالشجرة الطيبة، أصلها ثابت في مؤتة، وفروعها في مسالك الوطن ودروبه، «تُؤْتِي أُكْلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا»، وإخلاص ولاة أمرها وأبنائها الذين كان لها في نفوسهم مكانة، وفي قلوبهم منزلة، وفي خواطرهم رعشة اعتزاز، «ونعم أجر العاملين».
تاريخ بلاد الشام
وجاءت خامس الشهادات بقلم الكاتب والباحث الدكتور المهدي الرواضية بعنوان: «مدرسة البخيت التاريخية في الدراسات الشامية/ العثمانية». يقول الرواضية: «اختار الأستاذ البخيت مساراً علمياً محدداً وواضح المعالم، في وقت كانت فيه الكتابة التاريخية وفق المناهج العلمية في الأردن لم تبدأ أو لم تترسخ بعد، ينشد البحث في تاريخ بلاد الشام بأقطاره الأربعة مع الانحياز للموضوعات البكر التي لم تطرق خاصةً حول الأردن وفلسطين، وسعى لتوفير الوسائل الخادمة والمعينة على المضي في هذا المجال، وانتقى من بين طلبته بعض النابهين لخوض غمار ه?ا المسلك دافعاً بحزم للمتعثّر منهم بظروف المعاش وأسبابه، ومزيلاً للعوائق التي تعترضهم، ومهيئاً لهم من الأعمال الرسمية ما يعود عليهم ببعض المال المعين على مواصلة التعلم، ومحفزاً لمن قصرت همته عن الاستمرار أو جنحت نفسه للراحة والركون فتشكلت حوله طبقة من الطلبة المتميزين الذين لازموه ملازمة الظل: عاملين ومتعلمين، ووجههم إلى مجالات البحث التي اختطّ ملامحها، وأعدّ وسائلها، ودرّبهم على ارتيادها وسلوكها.
وبصرامته المعهودة في البحث العلمي، وقسوته العلمية المشهودة، وعدم تهاونه في العلم ومسائل البحث، انتظم الطلبة في دروسه ونهلوا من علمه وخبرته، وتشربوا أفكاره ومناهجه، وأعدوا رسائلهم وأطاريحهم الجامعية بإشرافه، ثم–لما أصبحوا أساتذة–نقلوا المعارف التي اكتسبوها لتلامذتهم وساروا على الخطة التي قررها لهم أستاذهم ومعلمهم البخيت، مكونين مع أستاذهم مدرسة تاريخية متميزة امتدّ أثرها خارج الأردن. وتمثلت معالم المدرسة التاريخية التي أنتجها الأستاذ البخيت في أربعة مسارب أساسية هي: تحديد مجال البحث التاريخي العلمي والتزامه?كمسار بحثي طويل المدى وتوفير مصادر البحث ومواده الأساسية ووضع الأطر النظرية الناظمة لهذا المجال وتعهده بالبحث والدراسة وتوجيه الطلبة إلى هذا النوع من البحث العلمي، وصولاً لتكوين طبقة من الدارسين والباحثين فيه.
واتجه البخيت لإقامة المشاريع البحثية المتعلقة بالدراسات الحضارية عن بلاد الشام وأقطاره ونواحيه ومدنه وقراه، ودراسة الحواضر المتمدنة في جنوب بلاد الشام، باتخاذ الوثائق والسجلات العثمانية على أنواعها المختلفة، وسجلات المحاكم الشرعية مصدراً أساسياً، وأنجز جملةً من الأعمال العلمية المرتكزة على الوثائق العثمانية خاصة دفاتر الطابو.
وسعى البخيت إلى جانب زملائه آنذاك في قسم التاريخ لإنشاء مركز خاص تجمع فيه الوثائق والمخطوطات، وتأسيس لجنة خاصة بدراسات تاريخ بلاد الشام، ونشط مركز الوثائق والمخطوطات في جمع مصوّرات السجلات العربية والعثمانية ومصورات المخطوطات من أنحاء العالم، وتمكّن بجهود الأستاذ البخيت من توفير نسخة من وثائق الأرشيف العثماني والسجلات الشرعية، فصار المركز قبلة للباحثين وطلبة العلم، وكان لهاتين المؤسستين فضل كبير في تطور الكتابة التاريخية في الأردن.
وإضافة لنشر الوثائق والسجلات وفهرستها، فقد قدم البخيت خدمات جليلة في مجال تحقيق التراث العربي والإسلامي، ولا يبتعد مشروع الوثائق الهاشمية عن الخط العام الذي التزمه البخيت، وإن كان نطاقه الزمني متأخراً عن الحقبة العثمانية، وكان البخيت قد باشر منذ العام 1994م التهيئة لهذا المشروع ورسم خطته ليصار إلى نشر الوثائق التي يحتويها أرشيف الديوان الملكي الهاشمي بهدف إتاحتها للباحثين والدارسين.
والبخيت من الأردنيين القلائل الذين قدموا إسهامات كبرى في إعداد المواد الموسوعية ضمن الإصدار الثاني من دائرة المعارف الإسلامية التي تصدرها دار النشر العريقة بريل/ هولندا.
وتأطرت مسيرة البخيت العلمية والبحثية بملامح عامة شكلت في مجملها مدرسة تاريخية واضحة المعالم والتوجهات غايتها الاستناد إلى الوثائق العثمانية والسجلات الشرعية والكنسية في كتابة التاريخ الشامي، خاصةً تاريخ فلسطين والأردن في العهدين المملوكي والعثماني، وأنتجت أعمالاً تاريخية متميزة، ولا نجانب الصواب إذا ما قلنا إن معظم الكتابة التاريخية في العهد العثماني، خاصة حول فلسطين والأردن، تمت بفضل البخيت وجهود طلبته النجباء، ممن ساروا على سننه وتأسّوا بطريقته ومنهجه».
تاريخ القدس
وتنتقل الشهادات بحق البخيت في ملف «أفكار» بتؤدة حتى تصل إلى جهوده بالتأريخ للقدس التي دوّنها الأكاديمي والباحث الأردني الدكتور عصام عقلة وقد جاء فيها: «قبل الولوج في موضوع القدس من خلال كتابات العلّامة محمد عدنان البخيت، لا بد من التنويه إلى قاعدتين أساسيتين في طريقة تناوله لمجمل القضايا التاريخية وهما: المنهج التاريخي الصارم القائم على نقد تلك المصادر للوصول إلى أقربها دقة، وتحليلها، وعرضها بشكل يخدم الموضوع المراد مناقشته، مع التأكيد على أنّ البخيت من مدرسة لا تُحمّل النص أكثر مما يتحمل، لا بل ولا تحاول ?فسيره تفسيراً لا ينطبق مع السياق العام للعصر الذي وقع فيه الحدث.
شغلت القدس وفلسطين حيزاً كبيراً من اهتمامات العلامة البخيت البحثية، ولا يمكن حصر تناوله للقدس بالأبحاث المتخصصة بها فقط، حيث إن هناك الكثير من الأبحاث التي تناول بها، وخصوصاً المتعلقة بولاية الشام في الفترة العثمانية، كما أنه اهتم كثيراً بمدن فلسطين الأخرى، وشغلت حيزاً بحثياً مهما لديه، وعلى رأسها أبحاثه حول حيفا العثمانية والأسرة الحارثية في مرج بني عامر (1980)، ونابلس ونواحيها (1996) وأريحا وجوارها (2007)، والعشائر العربية في ولاية دمشق 2006 وغيرها.
أما القدس فاختصّت لديه بدراسات مهمة، ولعل أبرزها بحثه حول مصادر الإنفاق على مدارس القدس في الفترة من 932-939هــــ/ 1525-1532م وهو بحث مهم يتناول الأوضاع الثقافية للقدس في القرن السادس عشر، ومؤسسات التعليم بها من خلال المصدر الأصلي، وهو دفاتر الطابو العثمانية. وهذا البحث نموذج لمنهج البخيت القائم على العودة للمعلومات من مصدرها الأصلي، وتفسير النص وتحليله بشكل محايد على قاعدة البخيت المنهجية الأساسية القائمة على ترك النص يتحدث عن نفسه، وهو ما أشاد به المؤرخون العرب والغربيون الدارسون لتراثه الذين وصفوا منهجي?ه التاريخية ضمن الالتزام بالموضوعية، لذلك لم ينطلق البخيت في دراساته من خلفيات وأحكام مسبقة، ولا متبنياً لنظريات يريد إجبار النص على تحقيقها والتوافق معها.
ولعب الدكتور البخيت دوراً بارزاً في الإشراف على تأليف كتاب القدس الذي اعتمد في الجامعة الأردنية لتدريس مادة القدس فيها، حيث تولى مسؤولية تحديد المحاور، ثم تكليف الأساتذة الذين يؤلفون كل محور، ثم مراجعة ما كتب وتسجيل الملاحظات حتى خرج بصورة أقرب ما يكون لكتاب مرجعي لكل باحث في تاريخ القدس. إن المتأمل في جهود الدكتور البخيت في التاريخ للقدس يجد نفسه أمام مدرسة واضحة المعالم تركز بحسب اختصاص الدكتور البخيت على التاريخ العثماني للقدس، ضمن سياق زمني وجغرافي محدد، وضمن مناهج تاريخية علمية واضحة، مدرسة لا تعتمد ت?ني عقائد سياسية أو تاريخية محددة بل الحقيقة المعرفية فقط».
الفكر والحوار
وجاء عنوان المناشط الثقافية في جامعة آل البيت خلال مرحلة التأسيس بقلم الأكاديمي والباحث الأردني الدكتور عليان الجالودي آخر شهادات الملف بحقّ البخيت، ومما جاء فيها حول دوره في النشاط الثقافي والأكاديمي في الجامعة: «ترجمت جامعة آل البيت فلسفتها في العمل على تنمية شخصية الطالب علمياً ومسلكياً، وعنايتها بالفكر والحوار وتنمية العقل العربي المسلم من خلال العديد من المستويات في أنشطتها الثقافية والفكرية التي نهضت بها الجامعة وكلياتها ومعاهدها المتخصصة خلال سنوات التأسيس تمثلت في إصدار الصحف الطلابية، والمجلات الإ?بارية والثقافية والمجلات العلمية والأكاديمية المتخصصة، وإقامة الندوات وورش العمل والحلقات النقاشية، وعقد المؤتمرات العلمية، ونشر حصيلة هذه الندوات والمحاضرات في كتب علمية متخصصة رفدت المكتبة الإسلامية والعربية بحصيلة ثرة من البحوث والدراسات في العديد من الجوانب الأدبية والعلمية، والتاريخية والفكرية، فضلاً عن سلسلة غنية من المنشورات العلمية الرصينة، كما تبنت المشاريع البحثية الريادية التي تخدم البيئة المحلية وتشكل جسراً من جسور التواصل بين الجامعة والمجتمعات المحلية.
وأسهم تنوع جنسيات أعضاء هيئة التدريس وتنوع مشاربهم الفكرية، وتنوع جنسيات الطلبة بتوليد حراك فكري وثقافي، اتسم بالثراء والتنوع من خلال المحاضرات والندوات والحلقات النقاشية والمؤتمرات، ورافق ذلك إنشاء الصحف والمجلات الإعلامية، والثقافية، والمجلات العلمية المحكمة وتشجيع النشر العلمي والمشاركة في المؤتمرات المحلية، والعربية والدولية، وتشجيع البحث العلمي وتوفير الدعم المالي للمشاريع العلمية. وتجلى النشاط الثقافي والفكري والعلمي في رحاب الجامعة بأكثر من مظهر، فكانت صحيفة الشورى الطلابية ومجلة الزهراء ومجلة البيا? والكتاب السنوي والمجلات العلمية المحكّمة والمحاضرات ونشر الكتب والدراسات المتخصصة والوثائق الهاشمية وسلسلة الرسائل الجامعية وغيرها الكثير».