نيلز مالوك* – (الغارديان)
بعد أن اقترب أكثر من أي وقت مضى من الانهيار، عاد وقف إطلاق النار بين “حماس” وإسرائيل لحظة كتابة هذه السطور إلى مساره الهش. قبل أيام فقط، هدد نزاع متصاعد الاتفاق بعد أن أعرب كل من الطرفين عن إحباطه من مدى التزام الجانب الآخر بتعهداته. كما تسبب اقتراح دونالد ترامب الأخير بإعادة توطين سكان غزة البالغ عددهم مليوني فلسطيني، في زعزعة الهدنة القلقة.
تكشف الاضطرابات التي خالطت وقف إطلاق النار القائم منذ شهر تقريبًا عن حالة أعمق من عدم اليقين السياسي: بعد 15 شهرًا من القتال، لا توجد حتى الآن رؤية واضحة لما سيحدث تاليًا؛ من يجب أن يحكم غزة ويعيد بناءها؟ وكيف ستكون علاقتها المستقبلية مع إسرائيل؟
للعثور على طريقة للملاحة في خضم هذه الأسئلة، سيكون الاستماع إلى وجهات نظر الناس العاديين في القطاع أمرًا بالغ الأهمية. وبصفتنا عالمي سلوك في كلية لندن للاقتصاد، أجرينا أنا وجيريمي جينجز دراسة واسعة النطاق حول كيفية رؤية الفلسطينيين في غزة والإسرائيليين لبعضهم بعضا، وللمستقبل. وقد أجرينا، قبل أيام فقط من إعلان وقف إطلاق النار في كانون الثاني (يناير)، استطلاعًا شمل أكثر من 1.400 شخص في عينات تمثيلية وطنية. وتعني القيود الحالية المستمرة على الوصول إلى القطاع واستمرار النزاع أن الرأي العام في غزة نادرًا ما يناقش. وكان جمع بياناتنا هناك -في جزء منه- مكونًا مقابلات شخصية أجرتها مؤسسة “آرتيس الدولية”، وبيانات “المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية” (PSR) ببنيته التحتية الحالية لاستطلاعات الرأي. وبالإضافة إلى ذلك، تحدثنا إلى العديد من الفلسطينيين في غزة خلال المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار من خلال المكالمات الهاتفية عبر الإنترنت قبل بضعةأسابيع.
كانت واحدة من أكثر النتائج إدهاشًا في بحثنا هي الكيفية التي أدى بها تفاوت نفسي عميق بين تصورات كل من طرفي الصراع إلى ترسيخ الانقسامات. في غزة، على الرغم من 16 شهرًا من النزاع المدمر والنزوح المتواصل -في بعض الحالات التي استطلعناها ما يصل إلى 10 مرات- أعطى العديد من الفلسطينيين الأولوية للقناعات السياسية، حتى على السلامة الشخصية المباشرة.
في الاستطلاع، طُلب من المستجيبين الإشارة إلى مدى اعتبارهم مجموعة من القيم المختلفة جزءًا من هويتهم الشخصية. وكما تبين، يتمسك الإسرائيليون الآن بهويتهم الوطنية بقدر أكثر ثباتًا مقارنة بالبيانات التي كنا قد جمعناها في أيار (مايو) 2024. وعلى الجانب الفلسطيني، تشير الغالبية العظمى من سكان غزة الآن إلى التزام قوي بكونهم فلسطينيين (94 في المائة)؛ وتحقيق السيادة الوطنية (86 في المائة)؛ وحق اللاجئين في العودة إلى مدنهم وقراهم التي فقدوها أثناء تأسيس إسرائيل في العام 1948 (90 في المائة). حتى أن مجموعة أصغر، لكنها تزيد على الربع مع ذلك، رأت أن هذه القيم مركزية تمامًا لهويتهم، وهو مؤشر على التضحية الشديدة والعنف، كما يكتب سكوت أتران وأنجيل غوميز. ويتعاطف حوالي واحد من كل أربعة أشخاص في غزة تمامًا مع الأفكار المتشددة للشريعة الإسلامية والمعارَضة الشديدة للسلام مع إسرائيل. وبينما يعتبر عدد أقل من الفلسطينيين في غزة الحرب التحدي الأكثر إلحاحًا للفلسطينيين -وهو اتجاه أظهره استطلاع للرأي أجراه مؤخرًا “المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية”- تعود الهويات السياسية مرة أخرى إلى الواجهة.
من أجل تحقيق فهم أفضل للمنظور الحالي للفلسطينيين في غزة، درسنا تفسيرهم للصراع حتى الآن. سألناهم عن سبب دعم أعضاء مجموعتهم العنف أثناء الحرب، ولماذا يعتقدون أن الطرف الآخر فعل الشيء نفسه. وظهر من الإجابات نمط مدهش لافت للنظر: عزا كل من الإسرائيليين والفلسطينيين هجمات جانبهم إلى “الحب البَيني داخل الجموعة” (الاهتمام بمواطنيهم وحمايتهم) أكثر من “الكراهية للمجموعة الخارجية” (الرغبة في إيذاء الطرف الآخر). ومع ذلك، اعتقدت كلتا المجموعتين أن الجانب الآخر كان مدفوعًا أكثر بالكراهية.
هذه الفجوة في التصورات مهمة. تُظهر الأبحاث أنه عندما يعتقد الناس أنهم مكروهون من قبل مجموعة أخرى، فإنهم يصبحون أقل ميلاً إلى دعم الحلول الدبلوماسية. وتؤكد بياناتنا ذلك. عندما يتعلق الأمر بالمستقبل السياسي طويل الأجل في غزة، ما يزال أقل قليلًا من نصف الفلسطينيين (48 في المائة) يؤيدون شكلاً من أشكال حل الدولتين. وقال آخرون إن السيناريوهات الأكثر واقعية لإنهاء الصراع تشمل تهجير اليهود من المنطقة (20 في المائة)؛ أو إقامة دولة واحدة تحت قانون الشريعة الإسلامية الصارمة (27 في المائة)، حيث ستكون لليهود حقوق أقل. وآمن 5 في المائة فقط بحل الدولة الواحدة مع التعايش في ظل حقوق متساوية.
ولكن كيف -ومَع مَن كقادة- يتصور الناس في غزة تحقيق أهدافهم؟ قد تبدو ”حماس” التي تحكم القطاع منذ العام 2007 وتتجذر في فكرة الأمة الفلسطينية الإسلامية هي المرشح الطبيعي. ولكن، وفقًا لاستطلاعات الرأي التي أجراها “المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية”، فإن نسبة التأييد لـ”حماس” في القطاع انخفضت من 42 في المائة بعد وقت قصير من 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 إلى 21 في المائة فقط في كانون الثاني (يناير) 2025. في الواقع، مع تزايد الانتقادات لأداء “حماس” في زمن الحرب، ينظر عدد أقل من الناس في غزة إلى أن الحركة تنتصر أو يدعمون الهجمات ضد إسرائيل. إلى جانب تفضيل العديد من الفلسطينيين رؤى أكثر تصالحية في المقام الأول، فإن هذه أخبار جيدة لجهود السلام أيضًا.
مع ذلك، إذا أُجريت انتخابات، يقول العديد من الفلسطينيين إنهم سيظلون يصوتون لـ”حماس”. والسبب؟ لم يستغل أي بديل قابل للتطبيق تراجع “حماس”. تُعد “فتح”، الحزب الحاكم في الضفة الغربية والقوة المهيمنة في “منظمة التحرير الفلسطينية”، ضعيفة وغير شرعية على نطاق واسع، كما أكد الناس الذين استطلعنا آراءهم في بحثنا. مرة أخرى، أدت التصورات حول كراهية المجموعات الخارجية إلى انخفاض كبير في الموافقة على “منظمة التحرير الفلسطينية”، التي تدافع عن نهج أكثر دبلوماسية تجاه إسرائيل. وقد اكتسبت شخصيات سياسية أخرى شعبية، لكنّ أي حركات لم تتجمع حولهم. بدلاً من ذلك، فإن الـ32 في المائة من الفلسطينيين الذين يقولون إن مصالحهم غير ممثلة على الإطلاق في جميع الخيارات المتاحة يشكلون الآن أكبر فئة جماهيرية في غزة.
في غياب قيادة واضحة، ما يزال مستقبل غزة بعد الحرب غير محدد. ومع ذلك، ثمة ما يدعو إلى الأمل. أولاً، أكثر من 90 في المائة من سكان غزة متفائلون بشأن الآفاق طويلة الأجل لهدنة أو سلام. ويمكن للتصورات حول كراهية المجموعات الأخرى أن تتغير بمرور الوقت، كما تشير بياناتنا، أو أن يتم تصحيحها، وفقًا للدراسات التجريبية. وعلى الرغم من صعوبة ذلك، إلا أن هذا يمكن أن يعزز الدعم للدبلوماسية والمصالحة. أما بالنسبة للسياسات الملموسة، فإن الأشخاص الذين استطلعنا آراءهم في غزة منفتحون بشكل متزايد على بعض البدائل، مثل وجود أمني مؤقت وإعادة إعمار تيسرها مصر.
بعد أن كادتا تنزلقان مجددًا إلى الحرب، تدخل إسرائيل و”حماس” الآن جولة جديدة هشة من مفاوضات وقف إطلاق النار. لكن التحدي الحقيقي يتلخص في العثور على قادة من كلا الجانبين لا يمكنهم تمثيل المصالح السياسية لشعوبهم فحسب، وإنما سد الفجوة النفسية التي تعيق السلام الدائم أيضًا.
*نيلز مالوك Nils Mallock: زميل باحث في مجموعة أبحاث XCEPT في “كينغز كوليدج” لندن، ومرشح لنيل درجة الدكتوراه في “كلية لندن للاقتصاد”. يقدم بانتظام إحاطات لوزارة الخارجية البريطانية حول القضايا المتعلقة بالسياسة. شارك في تأليف هذا المقال جيريمي جينجز Jeremy Ginges، أستاذ العلوم السلوكية في “كلية لندن للاقتصاد” ومؤلف دراسات مختلفة حول النزاعات بين المجموعات وحل النزاعات.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: We asked the people of Gaza how they saw their future – this is what we found
*آرتيس الدولية Artis International: مؤسسة بحثية علمية متخصصة في فهم حدود وإمكانات الإدراك والسلوك البشري في ظروف التعاون والمنافسة، بهدف تحسين الأوضاع الإنسانية للحكومات والمجتمع المدني والقطاع الخاص. تُجري أبحاثًا ميدانية في أكثر من 40 دولة، بما في ذلك مناطق نزاع ومجموعات مسلحة، لفهم الظروف التي تدفع الأفراد لاتخاذ إجراءات مكلفة. كما تُجري أبحاثًا على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي عبر خمس قارات وبثقافات ولغات متنوعة. تُسهم نتائج هذه الأبحاث في توفير أطر معرفية وسلوكية لتحليل وإدارة العمل البشري في مناطق النزاع، وتبني السياسات، واتخاذ القرارات الاستهلاكية. يقع المقر الرئيسي للمؤسسة في سكوتسديل، أريزونا، الولايات المتحدة.