عروبة الإخباري – طلال السكر –
في عالمٍ يضج بالمحتوى المتسارع والمتغير، تبقى بعض الأقلام مناراتٍ تهدي الباحثين عن الحكمة والمعرفة، ومن بين هذه الأقلام الراقية، يخط قلم الدكتورة، فلك مصطفى الرافعي، ابنة العلامة الفذ القاضي الذي كان سبق عصره، وهي التي تواصل بإصرارٍ نشر المحتوى الهادف، المتخم بالعبر والدروس، في زمنٍ باتت فيه العبرة لمن أراد أن يتعظ.
وفي سياق مقالتها التي استحضرت فيها المثل الشائع “إللي استحوا ماتوا”، نجد أننا أمام قصةٍ تحمل في طياتها أكثر من مجرد حكاية تاريخية، بل ترمز إلى مفارقةٍ مجتمعية لطالما كانت معيارًا لقياس القيم والمبادئ.
هذا المثل، الذي ذاع صيته بين الناس، يُستخدم كلما طفا على السطح موقفٌ يخلو من الحياء، أو فعلٌ مستهجنٌ تستنكره الفطرة السليمة. وتعود أصوله إلى حريق شبَّ في أحد الحمامات القديمة الخاصة بالنساء، حيث وجدت بعضهن أنفسهن في مواجهة بين الموت احتراقًا أو الهرب دون ساترٍ يحفظ سترهن. فاختارت بعضهن الفرار، بينما فضلت أخريات البقاء رغم خطر الهلاك، حفاظًا على ما تربين عليه من حياءٍ وعفة، حتى لقين مصيرهن المحتوم. وعندما سُئل والي المدينة عن الضحايا، جاءه الجواب المؤلم: “إللي استحوا ماتوا”.
هذه القصة ليست مجرد حادثةٍ عابرة، بل درسٌ عميق يُلهم من يبتغي الفهم والتأمل. ففي مجتمعات اليوم، ما زلنا نشهد صراعًا مشابهًا بين من يتمسكون بقيمهم حتى لو كلفهم ذلك الكثير، وبين من يساومون عليها بحجة التكيف مع الواقع.
وتتجلى عظمة هذا الطرح حين نقارنه بقوانين الطبيعة، فحتى الجمل لا يقترب من الناقة إلا إذا كان في مأمنٍ عن العيون، والنحل يرفض دخول القفير إذا شاب رحيقه أدنى شائبة، مفضلاً الموت على تلويث خلاياه. فهل آن لمن لا يستحون أن يتعلموا من تلك المخلوقات البسيطة دروسًا في الحياء والطهر والنقاء؟
لقد جسدت الدكتورة، فلك مصطفى الرافعي، في مقالها درسًا بليغًا في التمسك بالمبادئ، وجعلتنا نعيد النظر في معاني الحياء والكرامة، في زمنٍ باتت فيه القيم عملةً نادرة. ولعل في هذا التذكير ما يحرك الضمائر، فيعود المرء إلى أصله الفطري، ويستحضر وصية القيم قبل أن يُقال عنه: “إللي استحوا ماتوا”.