عروبة الإخباري –
بأسلوب مشرق يفيض بالحنين والفكر العميق، تأخذنا الدكتورة فلك مصطفى الرافعي في مقالها إلى أجواء المجالس الفكرية التي كان والدها العلّامة مصطفى الرافعي ـ رحمه الله ـ يعقدها، حيث كانت الشخصيات البارزة في السياسة والدين والاجتماع تتداول القضايا الكبرى بروح المسؤولية والوعي العميق. لم يكن المقال مجرد استذكار لحكايات الماضي، بل كان تجسيدًا لفكرة أن التاريخ يعيد نفسه، وأن ما نراه اليوم من مشهد سياسي واقتصادي مأزوم ليس إلا امتدادًا لصورةٍ تكررت بأشكال مختلفة عبر الزمن.
كان لافتًا في مقال الدكتورة الرافعي، التوقف عند شخصية رئيس الحكومة الراحل الحاج حسين العويني، الذي لم يكن مجرد رجل سياسة، بل كان يتمتع بفكر براغماتي واقعي، اختصر كثيرًا من التعقيدات في عبارته الشهيرة: “هيك و هيك”، فهذه الجملة التي تبدو بسيطة في ظاهرها، حملت في طياتها حكمةً عميقة، فقد كانت تصلح لكل الأوضاع، وتصلح لكل الأزمنة، وكأنها بوصلة تختصر تقلبات السياسة والاقتصاد والاجتماع في كلمتين فقط.
لا شك إن قدرة المقال على ربط الماضي بالحاضر تعكس رؤية ثاقبة، فالظروف التي استدعت تلك العبارة في زمن العويني لا تختلف كثيرًا عن الظروف الراهنة. فما زلنا نعيش في عالم مليء بالتحولات السريعة، والمواقف الضبابية، حيث تعجز الكلمات عن تقديم أجوبة قاطعة، فيصبح التوصيف الأكثر دقة هو ذلك الذي يمنح السائل فسحةً للتأويل، ويضعه في دائرة التفكر بدل أن يعطيه إجابة جاهزة.
وما ميز المقال أنه لم يقع في فخ النوستالجيا المجردة، بل كان مقاربة ذكية بين الماضي والحاضر، حيث رسم لنا صورة الحاج حسين العويني ليس كشخصية سياسية فحسب، بل كحالة ذهنية تستوعب الواقع بمرونته وتعقيداته. ولعل هذا ما يجعلنا نتساءل: كم من مسؤول اليوم يحتاج إلى هذه الفلسفة العملية؟ وكم من قرار يُتخذ بناءً على رؤية تشبه “هيك و هيك” دون أن يصرّح بها أحد؟
مقال الدكتورة، فلك، لا يستحضر العويني كشخص فقط، بل يستحضر منهجيته في التعامل مع واقع متأرجح بين الاحتمالات، بين الاستقرار والاضطراب، وبين وضوح الرؤية وضبابيتها. كما أن الربط الذكي بين تقلبات السياسة وتقلبات الطبيعة في فصل الربيع، الذي يجمع بين الدفء والبرودة، وبين الغيوم والإشراق، يضفي بعدًا فلسفيًا على فكرة المقال، حيث يتجلى التشابه بين دورات الفصول ودورات السياسة، وكأن “هيك و هيك” ليست مجرد عبارة عابرة، بل انعكاس لحتمية التغيير المستمر.
لقد أتى المقال بأسلوب رشيق وممتع، يزاوج بين الطرافة والجدية، ويمنح القارئ متعة استكشاف المعاني المضمرة وراء الكلمات. وهو في جوهره ليس مجرد استذكار لمقولة سياسية، بل هو دعوة للتأمل في كيفية إدارة الواقع بأدوات تتناسب مع تعقيداته، وربما في بعض الأحيان، بتبني نهج “هيك و هيك” حين تكون الحقيقة غير قابلة للحسم، وحين يكون التوازن بين الممكن والمأمول هو الخيار الوحيد.