ستيفن زونيس* – (نيو لاينز)
أدانت إدارتا جو بايدن ودونالد ترامب، بشدة، التوافق القانوني الدولي المتزايد على أن إسرائيل تنتهك اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. وهذا جزء من نمط مستمر على مدى عقود، حيث دأبت الحكومة الأميركية على إنكار، أو التقليل من شأن، أو تبرير جرائم الإبادة الجماعية والجرائم الأخرى ضد الإنسانية التي يرتكبها حلفاؤها. وبغض النظر عما إذا كان اتفاق وقف إطلاق النار الهش الذي تم التوصل إليه في 15 كانون الثاني (يناير) سيصمد، يغلب أن تكشف التحقيقات عن مزيد من التفاصيل حول جرائم الحرب الإسرائيلية، مما سيطرح تساؤلات جديدة حول تورط الولايات المتحدة.
صادقت 153 دولة على “اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها”، أو انضمت إليها، بما في ذلك الولايات المتحدة وإسرائيل. ومع ذلك، تصر حكومتا البلدين على أن الاتفاقية لا تنطبق على حرب إسرائيل في غزة التي ربما تكون قد أودت، وفقًا لدراسة حديثة نُشرت في مجلة “ذا لانسيت”، بحياة أكثر من 64.000 فلسطيني بحلول حزيران (يونيو) من العام الماضي. وعلى الرغم من استحالة التحقق من هذا الرقم، خاصة وأن إسرائيل منعت المراقبين الدوليين من دخول غزة، فإن المؤكد أن العدد الإجمالي للوفيات الفلسطينية قد ارتفع منذ ذلك الحين.
ثمة إجماع دولي متزايد بين أبرز منظمات حقوق الإنسان والخبراء القانونيين الدوليين على أن إسرائيل تنتهك بالفعل اتفاقية الإبادة الجماعية. في كانون الأول (ديسمبر)، أصدرت “منظمة العفو الدولية”، وهي أكبر منظمة حقوقية في العالم، تقريرًا مفصلًا خلص إلى وجود “أساس كافٍ لاستنتاج أن إسرائيل ارتكبت -وما تزال ترتكب- إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة المحتل”. وفي الأسبوع التالي، نشرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” تقريرها الخاص، مشيرة إلى أن “النمط السلوكي لإسرائيل، إلى جانب تصريحات بعض المسؤولين الإسرائيليين التي توحي برغبتهم في تدمير الفلسطينيين في غزة، قد يرقيا إلى مستوى جريمة الإبادة الجماعية.” وفي اليوم نفسه، أصدرت منظمة “أطباء بلا حدود” تقريرًا أكد العديد من هذه النتائج، ودعت “الدول، لا سيما الحلفاء المقربين لإسرائيل، إلى إنهاء دعمهم غير المشروط لها والوفاء بالتزاماتهم بمنع الإبادة الجماعية في غزة”.
جاءت هذه التقارير بعد دراسات أخرى نشرتها في أيلول (سبتمبر) “اللجنة الخاصة للأمم المتحدة” و”مكتب المقرر الخاص للأمم المتحدة”، والتي استشهدت بتصريحات لمسؤولين إسرائيليين توحي بوجود نية لإلحاق الضرر بسكان غزة، وهو شرط أساسي للوصول إلى العتبة القانونية لاعتبار الجريمة إبادة جماعية. وبالمثل، في كانون الثاني (يناير) 2024، أشارت “محكمة العدل الدولية” إلى أن الاتهامات بوقوع إبادة جماعية في غزة كانت “معقولة”، وصوتت المحكمة بأغلبية 15 صوتًا مقابل صوتين على فرض “تدابير مؤقتة” -وهي تدابير ملزمة قانونًا- تلزم إسرائيل بمنع ارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة.
كما يتزايد الإجماع في أوساط الخبراء الأكاديميين. على سبيل المثال، أشار المؤرخ الإسرائيلي البارز عومير بارتوف، أستاذ دراسات الهولوكوست والإبادة الجماعية في جامعة براون، إلى أن إسرائيل تشن “حرب إبادة” في قطاع غزة، مؤكدًا أن “الجيش الإسرائيلي يدمر غزة”. وبالمثل، لاحظ المؤرخ الإسرائيلي البارز، لي موردخاي، من الجامعة العبرية في القدس، في تقرير شامل عن جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة: “ليس من الضروري وجود معسكرات إبادة حتى يُعتبر الأمر إبادة جماعية. الأمر كله يتعلق بالأفعال والنوايا… وما يجمع بين كل هذه الأفعال هو التدمير المتعمد لمجموعة معينة”.
مع ذلك، في مواجهة هذا الإجماع المتزايد بين الخبراء القانونيين الدوليين، أصر بايدن على الإنكار، قائلًا: “ما يحدث ليس إبادة جماعية. نحن نرفض ذلك”.
وفي الرد على تقرير “العفو الدولية”، قال متحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية إن “الادعاءات بوقوع إبادة جماعية لا أساس لها من الصحة”، على الرغم من أنه اعترف بأنه لم يقرأ التقرير فعليًا. وعندما ضغط عليه الصحفيون بشأن النتائج التي تفيد بأن إسرائيل تستهدف المدنيين عمدًا، أصر على أن العدد المرتفع للقتلى المدنيين كان نتيجة لقيام حماس “باستخدام المنشآت المدنية كقواعد ومراكز عمليات”، لكنه فشل في تقديم أي أمثلة على ذلك.
من المهم ملاحظة أن إسرائيل ليست الدولة الوحيدة التي اتهمتها “منظمة العفو الدولية” ومنظمات غير حكومية أخرى ووكالات تابعة للأمم المتحدة بارتكاب إبادة جماعية. كما أنها ليست الحالة الوحيدة التي ترفض فيها الحكومة الأميركية مثل هذه النتائج.
الإبادة الجماعية هي من المفاهيم التي يكون تعريفها القانوني أوسع من تعريفها الشائع. على المستوى القانوني، لا تقصر الإبادة الجماعية على محاولات الإبادة الممنهجة لشعب بأكمله -كما حدث مع يهود أوروبا الذين استهدفهم النظام النازي أو مع شعب “التوتسي” الذي استهدفته الحكومة الرواندية- بل تشمل أيضًا أشكالًا أخرى من العنف. وتنص الاتفاقية على ما يلي:
“في هذه الاتفاقية، تعني الإبادة الجماعية أيًا من الأفعال التالية المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لمجموعة وطنية أو إثنية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه:
(أ) قتل أعضاء من الجماعة؛
(ب) التسبب في أذى جسدي أو نفسي جسيم لأعضاء المجموعة؛
(ج) فرض ظروف معيشية على المجموعة بقصد تدميرها كليًا أو جزئيًا؛
(د) فرض تدابير تهدف إلى منع الولادات داخل المجموعة؛
(هـ) نقل أطفال المجموعة قسرًا إلى جماعة أخرى”.
على الرغم من توثيق العديد من هذه الأفعال وجرائم الحرب الكبرى الأخرى التي ارتكبتها الحكومة الإسرائيلية، فإن إدارة بايدن كانت حازمة في رفضها فرض أي شروط على عمليات نقل الأسلحة الضخمة من الولايات المتحدة إلى إسرائيل، كما استخدمت حق النقض (الفيتو) ضد سلسلة من قرارات مجلس الأمن الدولي التي كانت ستحظى بالإجماع لوقف الحرب، وانتقدت بشدة مجموعات حقوق الإنسان والخبراء القانونيين الذين اختلفوا معها.
وبالمثل، رفضت معظم وسائل الإعلام الأميركية الرئيسية الاعتراف بوقوع إبادة جماعية -أو حتى السماح للآخرين بقول ذلك. في أوائل كانون الثاني (يناير)، رفضت صحيفة “نيويورك تايمز” نشر إعلان مدفوع الأجر من “لجنة الأصدقاء الأميركية للخدمة” AFSC، وهي منظمة غير ربحية تابعة لجماعة الـ”كويكرز”، تدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة، لأن الإعلان تضمن كلمة “إبادة جماعية”، واقترحت الصحيفة استبدالها بكلمة “حرب”، وهو ما رفضته المنظمة، مشيرة إلى أن للكلمتين “معاني مختلفة تمامًا، سواء من الناحية اللغوية أو القانونية الدولية”.
ولكن، لا إنكار وسائل الإعلام الأميركية، ولا دفاع إدارتي بايدن وترامب عن حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة في مواجهة إجماع دولي متزايد على أنها ترتكب إبادة جماعية، هو شيء غير مسبوق. ليست استجابة الولايات المتحدة لجرائم الحرب الإسرائيلية فريدة من نوعها ولا غير متوقعة. فمنذ أن برزت كقوة عظمى، دأبت الولايات المتحدة على إنكار الفظائع التي يرتكبها حلفاؤها باستخدام الأسلحة الأميركية، والتقليل من شأنها، والتغطية عليها، كما عرقلت الجهود المبذولة لإنهاء العنف من خلال استخدام حق النقض (الفيتو) في الأمم المتحدة، وهاجمت المؤسسات القانونية الدولية ومنظمات حقوق الإنسان التي تسعى إلى تحقيق المساءلة وفقًا للقانون الإنساني الدولي.
تنطوي هذه السياسات على تداعيات أخلاقية واضحة، لكنها تضر أيضًا بالقانون الإنساني الدولي عمومًا وبمصداقية الولايات المتحدة في مواجهة العنف الإبادي في دارفور وميانمار وأماكن أخرى. وإذا استمرت الولايات المتحدة، التي لعبت دورًا محوريًا في صياغة اتفاقية منع الإبادة الجماعية وغيرها من أسس القانون الدولي، في الظهور كمتواطئة في الإبادة الجماعية، فإن ذلك سيجعل من الصعب منع وقوع إبادة جديدة في المستقبل.
في العام 1971، خاض البنغاليون حرب استقلال ضد نظام الجنرال الباكستاني يحيى خان بعد رفضه نتائج الانتخابات التي منحت المعارضة ذات الأغلبية البنغالية فوزًا واضحًا. وخلال تسعة أشهر من القتال، قُتل ما بين 500.000 وثلاثة ملايين مدني على يد القوات الباكستانية، وتعرضت ما بين 200.000 و400.000 امرأة بنغالية للاغتصاب، بينما فر أكثر من 10 ملايين بنغالي إلى الهند.
ولكن، على الرغم من كل هذا العنف الإبادي، خرقَت الحكومة الأميركية، في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، حظرًا سابقًا على تصدير الأسلحة إلى باكستان، وشجعت الدول التي تتلقى مساعدات عسكرية أميركية، ومنها إيران (التي كانت آنذاك حليفة للولايات المتحدة)، على تمرير الأسلحة الأميركية إلى الجنرالات الباكستانيين. وقد أعرب العديد من المسؤولين الأميركيين في القنصلية الأميركية في دكا، عن اعتراضهم الشديد على تواطؤ واشنطن مع الإبادة الجماعية، واصفين ذلك بأنه “إفلاس أخلاقي”. كما طالب السفير الأميركي في الهند نيكسون بوقف دعمه للنظام الباكستاني. لكن هذه الدعوات رُفضت، وتم استدعاء القنصل الأميركي العام، آرتشر بلود، فورًا بعد تحذيره لواشنطن بشأن الإبادة الجماعية الجارية.
وفقًا لمجلة “تايم” في خريف ذلك العام، “كانت الولايات المتحدة متساهلة بشكل واضح في انتقادها العلني للفظائع التي ارتكبتها باكستان، ولموقف الحاكم العسكري الباكستاني، الرئيس يحيى خان، وهو رجل يحظى بإعجاب الرئيس نيكسون”. بل إن نيكسون قال للديكتاتور الباكستاني شخصيًا: “أتفهم الألم الذي لا بد أن تكون قد عشته عند اتخاذ القرارات الصعبة التي واجهتها”. وفي تسجيلات البيت الأبيض التي تم الكشف عنها لاحقًا، تبين أن نيكسون كان يعتقد أنه يمكنه أن يفلت بذلك، مشيرة إلى أن الحرب الإبادية التي شنّتها نيجيريا ضد المنطقة المسيحية في بيافرا “أثارت غضب القليل من الكاثوليك”، لكنه لم يتوقع رد فعل مماثلا عندما يتعلق ببنغلاديش لأنهم “مجرد حفنة من المسلمين الملاعين سمر البشرة”.
وعندما تدخلت الهند عسكريًا لوقف الإبادة، أدان جورج بوش الأب، الذي كان آنذاك سفير الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، ذلك التدخل باعتباره “عدوانًا”. وفي الوقت نفسه، أرسل نيكسون سفنًا من الأسطول السابع إلى خليج البنغال كإشارة دعم لباكستان، وشجع الصين على تحريك قواتها إلى الحدود الهندية لزيادة الضغط.
لكنّ احتجاجات صغيرة قادها نشطاء من طائفة “الكويكرز” وغيرهم في الموانئ الأميركية، حيث كانت الأسلحة تُحمَّل على السفن الباكستانية، أسهمت في إطلاق حركة ضغط دفعت الكونغرس إلى فرض حظر على تصدير الأسلحة، وهو الأمر الذي أفضى -إلى جانب التدخل العسكري الهندي- إلى وقف الإبادة الجماعية في نهاية المطاف. ومع ذلك، فإن عقلية الحرب الباردة، التي رأت أن دعم حتى أكثر الأنظمة الحليفة قبحًا كان ضروريًا لمصالح الأمن القومي الأميركي، دفعت واشنطن إلى السماح بحدوث إبادة جماعية إذا كان مرتكبوها من الحلفاء. وكما لاحظ عالم السياسة غاري ج. باس في مجلة “الأمن الدولي”: “تُظهر تجربة بنغلاديش قبل كل شيء أولوية الأمن الدولي على العدالة”.
ثمة إبادة جماعية أخرى لعبت فيها الولايات المتحدة دورًا هي التي وقعت في تيمور الشرقية. ووفقًا لـ”لجنة الاستقبال والحقيقة والمصالحة في تيمور الشرقية”، التي أُنشئت تحت إدارة الأمم المتحدة الانتقالية في تيمور الشرقية في العام 2001، لقي ما بين 102.800 و183.000 مدني حتفهم خلال الاحتلال الإندونيسي بين العامين 1975 و1999 -إما بالقتل المباشر أو بالموت جوعًا نتيجة للحصار الطويل الذي فرضته القوات الإندونيسية على المناطق التي يسيطر عليها المقاومون. وبالنظر إلى أن عدد سكان تيمور الشرقية آنذاك لم يكن يتجاوز 600.000 نسمة، فقد شكّل هذا، نسبيًا، واحدة من أسوأ الإبادات الجماعية في التاريخ.
ولم يكن ميل الجنرال سوهارتو، ديكتاتور إندونيسيا (1967-1998)، إلى القتل الجماعي سرًا، فقد قتل نظامه العسكري المدعوم أميركيًا ما بين نصف مليون ومليون شخص من اليساريين، بالإضافة إلى أفراد من الأقليات الصينية والأبانغانية. وفي 6 كانون الأول (ديسمبر) 1975، خلال زيارة إلى العاصمة الإندونيسية جاكرتا، منح الرئيس جيرالد فورد الضوء الأخضر لسوهارتو لغزو تيمور الشرقية بشكل كامل، وهو ما بدأ بالفعل بعد أقل من 24 ساعة. وصرّح وزير الخارجية، هنري كيسنجر، علنًا، بأن الولايات المتحدة “تتفهم موقف إندونيسيا من تيمور الشرقية” -أي أن المستعمرة البرتغالية السابقة حديثة الاستقلال يجب ألا يُسمح لها بممارسة حقها في تقرير المصير بموجب القانون الدولي.
وفي حين صوّت مجلس الأمن الدولي بالإجماع على أن توقف إندونيسيا غزوها وتنسحب إلى حدودها المعترف بها دوليًا، عرقلت واشنطن أي محاولة لفرض عقوبات اقتصادية على البلد أو اتخاذ أي تدابير أخرى لإنفاذ قرارات الأمم المتحدة. بل إن دانيال باتريك موينيهان، الذي كان آنذاك سفير الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، تفاخر لاحقًا بأنه، بناءً على تعليمات وزارة الخارجية، جعل الأمم المتحدة “غير فعالة تمامًا” في وقف الغزو.
في العام 1977، في عامه الأول في المنصب، أمر الرئيس جيمي كارتر بزيادة المساعدات العسكرية لإندونيسيا بنسبة 79 في المائة، بما في ذلك إعطاؤها طائرات لمكافحة التمرد، وهو ما مكّن الإندونيسيين من توسيع الحرب الجوية بشكل كبير بما جلبه ذلك من عواقب مدمرة. وعندما سُئل أحد مسؤولي وزارة الخارجية في إدارة كارتر عن القانون الأميركي الذي يحظر نقل الأسلحة إلى مثل هذه الدول المعتدية، قال إن النزاع لم يعد يُعد غزوًا، بل أصبح تمردًا داخليًا، نظرًا لأن إندونيسيا ضمت تيمور الشرقية. كما لعب ريتشارد هولبروك، مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون شرق آسيا والمحيط الهادئ في إدارة كارتر، دورًا رئيسيًا في دعم الإدارة الأميركية للموقف الإندونيسي. وجادل بأن الحفاظ على علاقات جيدة مع هذه الدولة الكبيرة، ذات الموقع الاستراتيجي، والغنية بالنفط، والموالية للغرب، كان أمرًا حيويًا -حتى مع أن حزمة المساعدات العسكرية الأميركية أسهمت في تنفيذ عمليات قتل جماعي خلال تلك الفترة. كما شارك هولبروك في التغطية التي قامت بها إدارة كارتر لاحقًا. في شهادته أمام الكونغرس في 4 كانون الأول (ديسمبر) 1979، زعم هولبروك أن المجاعة الجماعية التي عانى منها المدنيون في تيمور الشرقية كانت ببساطة نتيجة للإهمال خلال حقبة الحكم البرتغالي.
في العام 1991، أدت مذبحة ارتكبتها قوات الاحتلال الإندونيسية، المسلحة بأسلحة أميركية، في حق 270 متظاهرًا غير مسلح من تيمور الشرقية، إلى إثارة موجة غضب شعبي واسعة، وإلى جهود بُذلت في الكونغرس، بقيادة السيناتور روس فاينغولد من ولاية ويسكونسن، لربط مبيعات الأسلحة الأميركية لإندونيسيا بتحسين أوضاع حقوق الإنسان في تيمور الشرقية. وقاد ستانلي روث، نائب مساعد وزير الدفاع لشؤون شرق آسيا والمحيط الهادئ، حملة البنتاغون لإفشال تعديل فاينغولد. وخلال النقاش، صرح روث بأن الولايات المتحدة ستنظر في تقليص مبيعات الأسلحة فقط إذا نفذت إندونيسيا مجزرة أخرى. وبعد أن شغل منصب مدير الشؤون الآسيوية في مجلس الأمن القومي خلال إدارة كلينتون، اعترف روث في صحيفة “الواشنطن بوست” بأن “الدافع الأساسي” لسياسة الولايات المتحدة تجاه إندونيسيا كان رغبة واشنطن في “عدم إفساد العلاقة التجارية تمامًا” بسبب مخاوف حقوق الإنسان أو تحدي إندونيسيا المستمر للأمم المتحدة.
بعد الإطاحة بسوهارتو في انتفاضة شعبية في العام 1999، كشف استفتاء في تيمور الشرقية عن دعم ساحق للاستقلال، مما دفع القوات الإندونيسية إلى إطلاق موجة أخيرة من العنف. وخلال الحملة تم تدمير ما يقرب من 70 في المائة من مباني البلاد، وأُجبر ما يصل إلى 400.000 شخص على الفرار، وقُتل الآلاف. واستهدفت فرق الموت على وجه الخصوص الصحفيين، ونشطاء حقوق الإنسان، وعمال الأمم المتحدة، وداعمي الاستقلال، والكهنة والراهبات الكاثوليك. ورفض الرئيس كلينتون في البداية الدعوات إلى التدخل العسكري لإنهاء المجازر -وحتى الاقتراحات بأن تهدد الولايات المتحدة بإنهاء التعاون العسكري مع الجيش الإندونيسي، أو قطع القروض الدولية، أو ببساطة تجميد الأصول الخارجية الواسعة للجنرالات الإندونيسيين، وهي إجراءات كان يمكن أن توقف الهجمات في وقت مبكر. وبعد تسعة أيام من العنف الإرهابي، دفعت الضغوط الدولية المتزايدة كلينتون وزعماء العالم الآخرين إلى إرسال قوات حفظ سلام دولية بقيادة أستراليا، مما أدى في النهاية إلى استقلال تيمور الشرقية.
أما الإبادة الجماعية الأقرب إلى الولايات المتحدة جغرافيًا فكانت في غواتيمالا، حيث قدرت “لجنة التوضيح التاريخي الغواتيمالية” أنه خلال الحرب الأهلية في البلاد (1960-1996)، وقعت حوالي 200.000 حالة وفاة واختفاء قسري، وكان معظم الضحايا من المدنيين. حدث أكثر من 80 في المائة من هذه المجازر، التي استهدفت بالأساس السكان الأصليين في المرتفعات، بين العامين 1981 و1983. وبلغت المجازر ذروتها خلال حكم الجنرال إفراين ريوس مونت، حيث قُتل ما لا يقل عن 100.000 من الفلاحين من شعب “المايا” خلال تلك الفترة. ووفقًا لـ”مؤسسة شواه” في جامعة جنوب كاليفورنيا، فإن الجيش الغواتيمالي، إلى جانب فرق الموت التي استأجرها ملاك الأراضي الأثرياء، قام بـ”إبادة منهجية لأكثر من 400 قرية، حيث قام بإحراق المباني والمحاصيل، وذبح الماشية، وتسميم مصادر المياه، وقتل أو اختطاف من شاؤوا”. ووفقًا للأمم المتحدة، تعرضت نحو 100.000 امرأة من شعب المايا للاغتصاب. وتم تهجير ما يصل إلى 1.5 مليون شخص -أكثر من خُمس سكان البلاد- وفر 200.000 شخص إلى خارج البلاد.
في ذلك الوقت، عملت الوحدات العسكرية والاستخباراتية الأميركية عن كثب مع الجيش الغواتيمالي منذ أن دبرت الولايات المتحدة انقلابًا عسكريًا أطاح بالرئيس الإصلاحي المنتخب ديمقراطيًا، جاكوبو أربينز، في العام 1954. وأوقفت إدارة كارتر المساعدات العسكرية المباشرة لغواتيمالا بسبب الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان، ليتم استئنافها بعد وقت قصير من تولي رونالد ريغان منصبه في كانون الثاني (يناير) 1981. وكما فعل سابقًا عندما دافع عن المساعدات العسكرية غير المشروطة لحلفاء مشبوهين آخرين، تجاهل ريغان تقارير منظمات حقوق الإنسان التي وثقت الإبادة الجماعية المستمرة في غواتيمالا، مصرًّا على أن ريوس مونت كان يتعرض لـ”تشويه غير عادل” وكان في الواقع “رجلًا ذا نزاهة شخصية عظيمة”.
كما قدم مساعد وزير الخارجية لحقوق الإنسان في إدارة ريغان ادعاءات أورويلية بأن حكم ريوس مونت قد “حقق تقدمًا كبيرًا” في مجال حقوق الإنسان، وأن “معدل قتل المدنيين الأبرياء يتناقص تدريجيًا”، وأن “هذا النوع من التقدم يجب أن يكافأ وأن يلقى التشجيع”. وكما ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز”، فإن مسؤولي السفارة الأميركية “ذهبوا إلى مواقع المجازر وكتبوا تقارير تفيد بأن المتمردين هم الذين ارتكبوا عمليات القتل، وفقًا لرواية الجيش”.
كانت إدارة ريغان، في غمرة هوسها بفكرة أن كل انتفاضة يسارية في نصف الكرة الغربي كانت جزءًا من جهد سوفياتي للسيطرة العالمية، مستعدة لقطع أشواط بعيدة لإنكار وقوع إبادة جماعية.
أخيرًا، أُطيح بريوس مونت في انقلاب في العام 1983. واستمر القمع، ولو بوتيرة أقل، إلى أن أنهت معاهدة سلام الحرب الأهلية في العام 1996. وفي العام 2013، أدانت محكمة غواتيمالية ريوس مونت بارتكاب جرائم إبادة جماعية.
في حالات عديدة شهدت انتهاكات واضحة لاتفاقية الإبادة الجماعية، نفت الحكومة الأميركية حدوث إبادة جماعية حقًا، وحاولت إلقاء اللوم على الضحايا الذين تعرضوا للعنف، وهاجمت منظمات حقوق الإنسان والمنظمات الدولية التي وثقت جرائم الحرب. ونتيجة لهذه الاتجاهات، مكَّنت واشنطن هذه الإبادات الجماعية -أو جعلتها أسوأ على الأقل.
واصل جو بايدن هذا التقليد المشين في دفاعه عن حرب إسرائيل على الفلسطينيين في غزة، ومن المحتمل أن تكون إدارة ترامب الجديدة -التي شرعت فعليًا في تقليص مكاتب وزارة الخارجية ووزارة الدفاع المعنية بتعزيز حقوق الإنسان وتقليل جرائم الحرب، أسوأ حالًا. كانت دعوة ترامب إلى تهجير الفلسطينيين بالقوة من غزة، و”تسوية” المباني المتبقية بالأرض، ووضع المنطقة تحت السيطرة الأميركية، وإحضار المستوطنين لإنشاء منطقة منتجعات كبيرة، إشارة واضحة إلى مدى عدم احترامه هو وإدارته للقانون الدولي.
ومع ذلك، يظهر التاريخ أن إدارات الحزبين قبل ترامب -على الرغم من خطابها المثالي عن الحرية وحقوق الإنسان وحكم القانون- كانت تسترشد في الغالب بحسابات جيوسياسية ضيقة، حتى عندما يتم تقديم أدلة لا يمكن إنكارها على حدوث إبادة جماعية.
على الرغم مما قد يدعيه بايدن وترامب وغيرهما من مؤيدي الحكومة الإسرائيلية، لم يكن قرار “محكمة العدل الدولية” بالتحقيق في اتهامات الإبادة الجماعية ضد إسرائيل نتيجة لانحياز المحكمة. ثمة قضايا أخرى (لم تكن الولايات المتحدة متورطة فيها) تم تقديمها أمام “محكمة العدل الدولية”، مثل طلب غامبيا التحقيق في الإبادة الجماعية التي ينفذها نظام ميانمار ضد الروهينغا (الذي قبلته المحكمة)، واتهامات روسيا للحكومة الأوكرانية بالإبادة الجماعية ضد الناطقين بالروسية (التي رفضتها المحكمة).
في العديد من الجوانب، يظل دعم الولايات المتحدة للإبادة الجماعية التي تنفذها إسرائيل ضد الفلسطينيين أقل قابلية للمغفرة من هذه الحالات السابقة، حيث مدى القتل في هذه الإبادة الأخيرة معروف بشكل جيد جيدًا. وبدلاً من دفعها إلى الصفحات الخلفية في الصحف الكبرى كما كان حال بعض المآسي الأخرى، كانت صور الإبادة في غزة متاحة بسهولة للأميركيين.
هذه أول حرب إبادة جماعية يرى فيها النشطاء الشباب الولايات المتحدة وهي تلعب دورًا رئيسيًا. ونظرًا لأن دور الولايات المتحدة في تلك النزاعات السابقة لم يحظَ بالاهتمام الذي يستحقه في حينه، ولا بالمكانة الكافية في السجل التاريخي، يفترض العديد من النشطاء الشباب وغيرهم أن هذا حدث فريد من نوعه، وأن إسرائيل شريرة بشكل استثنائي، وأنه يتم جر الولايات المتحدة، بطريقة ما، لتكون شريكًا على مضض بسبب قوة “اللوبي الصهيوني” الذي يتمتع بنفوذ مطلق.
لكن من الضروري إدراك أن دعم الولايات المتحدة للإبادة الجماعية ليس جديدًا ولا فريدًا من نوعه. إنه، في الواقع، نمط مأساوي مألوف حيث تطغى الضرورات الاستراتيجية والاقتصادية التي يراها صانعو الأمن القومي الأميركي على دعم الولايات المتحدة لجرائم الحرب -بل وحتى تواطؤها في الإبادة الجماعية. ولا شك في أن المبالغة في تقدير “قوة الصهيونية” تُحوّل الانتباه عن أولئك الذين يتخذون قرارات السياسة فعليًا. يجب على أولئك منا الذين يسعون إلى إنهاء تواطؤ الولايات المتحدة في الفظائع أن يدركوا أن المشكلة أعمق بكثير.
*ستيفن زونيس Stephen Zunes: أستاذ العلوم السياسية ومدير برنامج دراسات الشرق الأوسط في جامعة سان فرانسيسكو.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: By Rejecting Evidence of Genocide in Gaza. the US Is Following a Familiar Pattern