عروبة الإخباري –
“النهار” – يوسف طراد –
الزمن الغابر حوى ما حواه من ذكريات، كانت العواصف هوجاء في شتائه، أين منها إعصارُ “كريم” وعويّصِفةُ “نورما”؟
كان الثلج صديق الأطفال. فتيةٌ مراهقون إمتلأوا من اللعب حبورًا ومن الدرس كربًا، تمتدُّ أيديهم خارج نوافذ غرفة الوجاق مساء، لمعرفة أنواع المتساقطات، أهي مطرٌ أم ثلجٌ؟ ينامون على بركته، علّهم يجدون صباحًا أعجوبته البيضاء.
إنه الثلج، وشاحٌ من نول الخالق ما حاكه حائكٌ في الدنيا. غيوم السماء، توزّع بالتساوي الهبة الربّانية رقعًا بيضاء فوق التلال والوهاد، فيزداد شغف الأولاد كلما تكدّس الأبيض. ثوبٌ جميلٌ للأشجار والأغصان العارية، وقار لقرميد السطوح، صمتٌ ساج، وهدوءٌ ناعمُ. القرية بما فيها من منازلَ وأزقةٍ وأعمدة كهرباء، ملفوفةٌ برداءٍ سميكٍ ناصعٍ. آثار دعسات ثعلبٍ جريءٍ على امتداد صفحة الطريق البيضاء إلى قنّ الدجاج، اختلطت بآثار دعساتٍ أخرى لهررٍ تمارس نشاطها خلال أقصر شهر في السنة.
انطلق الأطفال بمهرجانٍ صاخبٍ كأنه مظاهرات الحراك. الوجهة منحدرات القرية، منتعلين أحذيةً كاوتشوكية (جزمات ماركة عنتر) لا يتسرّب إليها الماء، لكنها موصل جيد للصقيع. تحت إبط كلٍ منهم كيسٌ من النايلون السميك، أُفرغ مضمونه من السماد الكيماويّ قرب جذوع الزيتون، كُتب عليه بالخط العريض وبلغةٍ أجنبيةٍ كلمة (نيغرو). وشموا الطرقات بدعساتهم الصغيرة دعسًا ورصًا، غير آبهين بزمهريرٍ، لأن الدفء سال في عروقهم نبضًا من لعبٍ وقفزٍ.
ذاك الطفل الشقي، كان السّباق بالوصول إلى قمّة جبلٍ، تنحدر منه جلول كروم عنبٍ، في منطقةٍ تدعى (كروم العتاق)، هذه الجلول أصبحت بمساحةٍ واحدةٍ على اتِّساعٍ كبيرٍ، وقد اختفت الحفافي تحت سماكة الزائر الأبيض. افتتحت شقاوة الطفل طريق التّزحلق، جالسًا على كيس (النيغرو) كأنه كولومبوس يعبر العباب بسفينته، جاهدًا من أجل الوصول إلى أسفل الكروم؛ لأن تقنيات هذه الرياضة، تقضي برصّ المسار ليصبح أخدودًا، كأخاديد منتجعات الألب للألعاب الأولمبية.
(من الفجر إلى النجر) أي إلى المساء، وقتٌ طويلٌ للّعب والتزحلق من دون أوقاتٍ مستقطعة. لا جوعَ ولا عطشَ ولا تعب، فكرات الثلج الصغيرة التي رصّتها الكفوف والتهمتها الأفواه، أغنت الأجسام عن الطعام والشراب.
يغيب نهارٌ ويأتي صباحٌ، بعيد شروق الشمس بقليلٍ، يكتسب الثلج بعض رطوبةٍ، يصبح غير صالحٍ للتزحلق. لكنه يضحي مناسبًا لألعابٍ أخرى، كالضرب بالكرات الثلجية وصناعة التماثيل ذات العيون المحدّدة ببلوط السنديان، وقد اُدخلت في أفواهها أعوادٌ قصيرةٌ، لأن الجزر ثمارٌ في الأحلام عند أطفال الجبال.
لعبة المجهود، كانت كرة الثلج التي تكبر عند دورانها، يعمد الأولاد إلى تتابع مسيرها بجهدٍ جهيدٍ، لإعطائها حجمًا ضخمًا، متبارين للوصول إلى إنجاز أكبر حجمٍ، وتسجيله في كتاب غينيس للذاكرة القروية، إنها كرة ثلجٍ ضخمةٌ تحوي نقاوة نفنافٍ ربانيّ وجهد أطفالٍ، مغايرة تمامًا لكرة ثلج “شيمون شيفر” التي تحوي سياسةً وخبثًا ودهاء.