أحرص عند استعراض كتب لغايات اقتنائها أو استعارتها على قراءة أحد الملاحق المنسية لدى معظم القراء ألا وهي الخاصة بالتعريفات أو المصطلحات. هي ليست بمعجم خاص بالكتاب فقط بل هي دعوة للانطلاق من أرضية مشتركة من المفاهيم تفاديا لأي سوء فهم وبالتالي ما يعرف لدى المحللين بتقدير موقف على نحو رصين.
كبرنا، وبتعبير ذلك الشقيق المرحوم المشهور عربيا إبان اندلاع «الربيع العربي» من تونس الخضراء، «هرمنا» ونحن نقرأ صولات وجولات العارفين بالأشياء كلها، فإن هممت بقراءة متأنية معمّقة نقدية للنصوص ترى العجب العجاب، ترى مثلا كتابا في السياسة لا تجد فيه إلا الخطابة وتغيب كلمات مفتاحية كتعريفات ما هي الدولة والأمة والحضارة والقوة بأشكالها الخشنة والناعمة، والناعمة الدقيقة الشفافة التي تكاد لا تراها بالعين المجردة!
من تلك التعريفات الغائبة المغيبة عن أذهان المبتلين بعشق الشرق والمشرق، الاقتصاد أو علم التدبير. ذلك العلم وتلك المهارة التي غابت عن أبناء الضاد وأمة الإسلام بحسب تقدير مؤسس علم الاجتماع في نظر كثيرين، ابن خلدون. إن كان التدبير اقتصاد فالتدبّر هو الأهم والأسبق. العبرة في ذلك الفهم العميق للسياسة والاقتصاد والأمن والإعلام وغيرها من الميادين التي ينبغى أن تتكامل فيها الأدوار لا تتضارب حتى وإن تقاطعت دوائرها. المركز واحد. هذا هو سر أسرار الخلق. الخطوط مستقيمة أم متعرجة احترافا وطلبا للنجاة والفاعلية تبدأ بنقطة، وكذلك هو مركز الدوائر كلها، لا بد من نقاط ارتكاز وإلا ضاع الجهد وتبددت الطاقات مهما بلغت من الصدق والحماسة. الفزعة سمة عظيمة يتحلى بها المحبون الغيارى، لكن عالما صار في مركز وعين عاصفة التعرِفات الجمركية والعقوبات الاقتصادية كوسيلة ضغط، لا بد له من توحيد التعريفات الناظمة لإيقاع ما يترتب عليها من نتائج. حتى الكلام «عليه جمرك» في هذه الأجواء الدولية العاصفة الملبّدة بغيوم لا نعرف خيرها من شرها، غيثا أم مطرا.
القارئ المتعظ من التاريخ يعرف أن كثيرا من الحروب التي خاضتها إمبراطوريات وأحلاف ودول وجماعات ما هي في حقيقة الأمر إلا حروب اقتصادية، معظمها تجارية وكثير منها مالية-جمركية حتى ما قبل النظام العالمي الجديد الذي أرست قواعده أمريكا «الآباء المؤسسون»، كانت هناك حروب خاضتها البحرية الخاصة في عدة دول مع القراصنة وكانت هناك أيضا أتوات و «سلبطة»، لعلها نتاج الخلط بين السلطة والبلطجة كما في الاستقواء بالقوة المالية أو الاقتصادية وحتى المعرفية الرقمية التي بلغت من السطوة حد المقارنة بين المجمع العسكري الصناعي الذي حذر منه الرئيس الأسبق دوايت آيزنهاور والمجمع التقني الذي حذر منه الرئيس السابق جو بايدن.
في الأول من فبراير، أول أيام حرب التعرفات التي فرضها دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة على جارتيها كندا والمكسيك ومنافستها الأكثر خطورة اقتصاديا الصين، أخط هذه السطور وكلي أمل أن يراجع البعض خطابه ومفرداته في ضوء ما سبق. العواصف تواجه بالسكون والمرونة والثبات. والضغوط الاقتصادية المالية تواجه بأدواتها، لا بالشعر ولا بالنثر. التحدي تحدي أرقام لا إرادات. من أراد التحرر من سطوة البنوك مثلا يراجع أولويات إنفاقه ومن بعد يضبطها. الحياة كلها اختيارات بين خيارات إن لم تكن موجودة قمنا بإحداثها وجعلناها متاحة ليوم أعسرت فيه الأرض أو السماء. قد سمعنا عبارات «خيارنا الاستراتيجي» وإن أردناه حقا استراتيجيا لا بد من التكتيك بعيدا عن حركات «التك توك» البهلوانية! التكتيك بالورقة والقلم والمسطرة و»المحاية والبراية» والأهم بالبيكار الذي نوسعه ونضمه كيفما ومتى شئنا ما دامت نقطة الارتكاز فيه ثابتة راسخة، بوصلتها الأردن أولا ودائما..