عروبة الإخباري – الكاتبة التونسية سمية دحمان –
لست أدري هل كنت أنتظر نفسي أن تعود معي أم أنتظرها، والعقل والقلب والأرقام المتخفية للساعة الكبيرة في شارع الحبيب بورقيبة بوسط العاصمة تقول جميعها أنها لن تأتي. جلست على الكرسي الخشبي، غير بعيد عن أكشاك بيع الورد، تحت شجرة فيكوس ظليلة، تتخلل أوراقها أشعة شمس ربيعية بيضاء، وقد غادرتها الطيور ولم تعد إليها. أغمضت عيني وبدأت العد إلى مائة، مثل تعويذة قديمة ينتظر بعد تمتمتها تحقق إحدى معجزات الظهور. بالأمس، قالت لي في مكالمة ليلية أنها لا ترى المستقبل معي، فمشواري طويل والصحافة مهنة المتاعب والجيوب الفارغة، وسألتني عن أي حقيقة أبحث، والحقيقة الوحيدة هي أننا غير مرئيين في هذه المدينة الكبيرة التي مثل كل العواصم والمدن الكبرى إذا جاعت تأكل ناسها. قلت لها وأنا لا أصدقها: “لماذا يا ريما تركتني أتعود وجودك طيلة ثلاث سنوات وأصنع من الغيم بيتا لنا؟ ولماذا سمحت لي أن أحبك إلى هذا الحد؟ ألم تعلمي أني اندفعت كلي ولم أترك شيئا لنفسي لأقاوم؟” فأجابت بقسوة لا أعرفها: “قدرة الرجال على التجاوز كبيرة، لذلك ستنسى بسرعة.” صممت على أن ألتقي بها في هذا المكان للمرة الأخيرة، متجاهلا رفضها، وها هي ذي الآن لا تأتي، وتغلق خط هاتفها وتحضرني من كل التطبيقات التي كنا نستعملها لنبقى على اتصال، وتتبخر من حياتي مثل حبات الندى التي كانت على فوانيس الشارع هذا الصباح، وها هي ذي تختفي.
أصبحت لدي عادة العد إلى مائة بيني وبين نفسي لأتأكد من حقيقة غياب الأشخاص والأشياء منذ آخر مرة لعبت فيها لعبة الغميضة، وكانت من سنين بعيدة في أيام الطفولة المبكرة، مع أخي أحمد الذي يكبرني بسنتين وبقية الرفاق. حينها كان دوري في العثور على المختبئين. أسندت رأسي إلى جدار بيت من بيوت الحي وأغمضت عيني وبدأت العد، وسمعتهم يركضون مسرعين للاختباء بين وشوشات وضحكات طفولية يحاولون كتمها، وهم يأملون أن لا يصدروا أصوتا قد تكشف أماكن اختبائهم. لم أنتبه وأنا أحاول ألا أخطئ العد إلى صوت أذان المغرب المنبعث من الجامع القريب، وكان يسري قانون جماعي على عالم الصغار يقضي بدخولهم إلى البيوت عند سماع المؤذن يقول الله أكبر وقبل موعد رجوع الآباء. تركني الجميع مغمض العينين، أعد إلى مائة، وأنا أقف مستندا إلى جدار، وعادوا إلى بيوتهم، وحتى أخي لم يكلف نفسه عناء إخباري أن اللعبة قد انتهت. أكملت العد في مسحة من الظلام، وبدأت البحث عن الأصدقاء في الأزقة الضيقة وتحت المدارج المكشوفة وبين قباب الأبنية القديمة، وقد سكنت الأصوات، إلا من بعض المارين على عجل قاصدين بيوتهم، أو من إيقاع الحياة داخل المباني العامرة بالسكان. أعياني البحث في كل مكان دون العثور على أحد، إلى أن سمعت صوت أختي مريم وقد أرسلتها أمي تناديني لأدخل إلى البيت. وحين أخبرتها أنه يجب أن أبحث عن أحمد لأنه كان يلعب معي لعبة الغميضة، سحبتني إليها فيما يشبه عناق المواساة، وقالت، وهي تشفق علي، أنه في البيت يتناول عشاءه أمام التلفاز ويشاهد الصور المتحركة. ولم ألعب لعبة الغميضة مرة أخرى.
تعلمت قانون الاختفاء، الذي لا يقل أهمية عن قانون الجاذبية ونظرية نيوتن للحركة، بنفسي ودون أن يعلمني أحد. وكنت أسمع أمي وهي تبحث عن الأشياء التي اختفت فجأة دون سبب منطقي، فلا تعثر على خاتمها ونظاراتها الطبية وهاتفها الجوال، ولا تجد المفاتيح وعلبة السكر وعدة الخياطة. وكان يسودني اعتقاد أن الأشياء يجب أن تختفي لأن وجودها الدائم يعطي انطباعا بالثقة ليس له ما يبرره، وأعلم في قرار نفسي أن اختفاءها ليس سوى تمهيد لأحداث أكبر وأكثر أهمية في حياتنا. لذلك كنت أقول لأمي أنها ستظهر فجأة تماما مثل اختفائها الفجئي، وأحاول أن أقنعها أن البحث عنها لن يجدي نفعا، وكم وددت لو أخبرتها عن سر العد إلى مائة. ولكنها لم تكن تفهمني، فتواصل عملية البحث التي لا تكاد تنتهي إلا لتبدأ من جديد، في أدراج الخزانة وبين الرفوف وفوق الدولاب وتحت السرير الكبير، وتساعدها أختي مريم وهي تلقي اللوم على الجسد والذاكرة المنهكين، إلى أن تقرر الأشياء الظهور من تلقاء نفسها، بنفس الطريقة العجيبة التي اختفت بها. وفي إحدى الليالي، كانت الأشياء التي اختفت هي الجدران الداخلية لبيتنا والتي كانت تفصل بين الحجرات والمطبخ وبيت الحمام. كنت مع أحمد في غرفتنا نشاهد أمي في حجرة نومها، وكانت أختي مريم في غرفة المعيشة تتنقل بعيني قلبها بين أمي وأبي وبيني أنا وأحمد، أما أمي فقد كانت تحتضن أبي بروحها وتحاول أن تغير الأقدار بدعائها وتضرعها لله. كنا ليلتها نرى بعضنا مثل كائنات شمعية شفافة، فلا يستطيع أحدنا أن يبعد نظره عن الآخر. كانت أمي تجلس على طرف السرير الذي يرقد عليه أبي، بعد أن طلب منا طبيب المستشفى أن نعود به إلى البيت ليموت بيننا، ولكن من يصدق الأطباء، هكذا سمعنا أمي تقول لنفسها. اشتد علينا الأمر، وسحقنا الحزن الجماعي، وسحبنا التيار الجارف للعواطف والذكريات، وبكينا معا. وفي اليوم التالي، حين عدت من المدرسة، كان أبي قد اختفى. وبعد شهرين، كنا قد انتقلنا إلى بيت جدي، فاختفى بيتنا والحي ورفاق لعبة الغميضة.
لم يعد لريما وجود في حياتي، وكذلك نفسي القديمة تركتها على المقعد الخشبي في شارع الحبيب بورقيبة، وعدت إلى البحث عن الخبر. هذه المرة سأبحث عنه في ليبيا، كما تقتضي المهمة التي كلفتني بها القناة التي أعمل لفائدتها، مع فريق صحافي صغير، وبالتنسيق مع صحافيين ينتمون إلى وسيلة إعلام ليبية. انطلقت رحلتنا على متن سيارة تحملني مع المصور والسائق، وترافقنا سيارة أخرى على متنها الفريق الصحافي الليبي المتكون من أربعة أشخاص. كتبت العجلات على تراب الطريق مقالا طويلا عن رحلة بحثنا عن حقيقة ضائعة، سبق أن بحثنا عنها في بلادنا، ولكننا لم نجد سوى الدليل الذي خلفه الشيطان وراءه وأرادنا أن نعثر عليه.
توغلنا في عمق الأراضي الليبية في اتجاه الشرق، ولا شيء يجعلنا نشعر بالأمان أو الطمأنينة، وكنت أتبادل نظرات القلق والتوجس مع صديقي المصور، وكل منا يقول للآخر بصوت غير مسموع لماذا لا نعود؟ ولكن طريق العودة نفسه طويل وغير مضمون. أوقفتنا مجموعة مسلحة على متن شاحنات وسيارات رباعية الدفع، وأنزلتنا من السيارة، وسألنا أحد أفرادها عن هويتنا ووجهتنا وسبب تواجدنا. ثم أحاط بنا عدد كبير من الأشخاص الذين تبدو عليهم الرعونة والجهل، ويمسكون بأسلحة مثلما يمسك الأطفال بالألعاب، فسرت فينا الرهبة والخوف من هذا اللقاء بين الجهل والسلاح. حاولنا أن نتمالك أنفسنا ونحن نجيب على الأسئلة دون أن نعرف شيئا عن هذه المجموعة، باستثناء بعض الاستنتاجات السريعة من طريقة حديثهم والرايات السوداء التي كانت فوق سياراتهم، لكننا رأينا الرعب يرتسم في عيون الفريق الليبي الذي صاحبنا. قلت لمن معي: “لسنا بخير يا صديقي!” فاكتفى بالهروب بعينيه إلى الأرض وقد أدرك حقيقة هؤلاء المسوخ الذين نبتت لهم حراشف ومخالب وأنياب سباع، ويتكلمون بأصواتهم الحيوانية التي تشبه الصرير عدة لغات ولهجات غريبة عن المنطقة ولا تحمل أي دليل على امتلاكهم لفكر أو مشاعر. الصحافي الذي في داخلي يعرف أن قوة شر أكبر تمكنت من جمع هذا العدد من المسوخ من كل بلاد الأرض ومكنتهم من كل هذا العتاد الذي لا يتسنى امتلاكه لدول وجيوش نظامية، ثم ألقت بهم هنا. أغمضوا عيوننا بقماش أسود، وكبلوا أيادينا وراء ظهورنا، ودفعونا بعنف إلى سياراتهم وأسلحتهم موجهة نحونا، يلصقونها برؤوسنا وظهورنا، ولكنها لا تخيفني بقدر ما تخيفني فكرة الذبح التي بدأت تسيطر على مخيلتي. حاول السائق الذي كان معنا أن يستعطفهم ليخلوا سبيلنا، ولكن يبدو أن صوته الآدمي هو أكثر ما أزعجهم، فردوا عليه بضربه بوحشية بشيء صلب، قد يكون عقب أحد أسلحتهم النارية، على رأسه أو ربما ظهره. سمعنا على إثر ذلك صرخة ألم كبيرة يطلقها، ثم لم نسمع بعد ذلك شيئا. وأنا مغمض العينين مع الخاطفين، بدأت العد إلى مائة، فقلت واحد…أمي وبكيت من أجلها، اثنان… أختي مريم وحرقني الدمع، ثلاثة… أحمد وسامحته، وحين قلت أربعة تذكرت ريما، فعلمت أني لن أعود.