عروبة الإخباري –
العرب –
قد يبدو العنوان صادما للبعض أو مبالغا فيه، لكن من قرأ في علم النفس بفروعه واطلع على كتابات أشهر الدكاترة في هذا المجال سيدرك أنه وصف دقيق للبشر دون استثناء، فإن لم يكن لديك إدمان كبير ظاهر ومؤثر في حياتك، قد تجد – بوقفة تأمل جادة – إدمانا خفيا تمارسه كل يوم ربما دون أن تدري أنه وجه من أوجه الإدمان.
لم أكن لأعرف ذلك لولا السعي الدائم للتعلم عن النفس البشرية. آمنت أننا جميعا “مساكين” نحمل بدواخلنا الكثير، وكنت أكرر دائما أنه “لو دخل كل منا قلب الآخر لأشفق عليه”.
وبمراكمة القراءات لأطباء ومختصين ممن اختاروا أن تغادر خبرتهم ومعلوماتهم ودراساتهم أسوار عياداتهم والجامعات وأن يكسروا هيبة البحث الأكاديمي وصعوبته ومفرداته الغامضة ليقرّبوه ممّن يسعى للتعلم عن النفس البشرية وخباياها، وعن العلاقات والتنشئة الأولى والسلوك، وجدت أن البشر مدمنون بدرجات مختلفة.
أحد هؤلاء الأطباء هو الدكتور عماد رشاد عثمان الطبيب المختص في الصحة النفسية. لقد قرأت كتبه الثلاثة، بدءا من “أحببت وغدا” ثم “أبي الذي أكره” و”ممتلئ بالفراغ”، لم أفهم جيدا محتواها، مررت عليها مرور الكرام أحيانا، ورأيت أن بعضها مبالغ فيه. إن قرأت “أحببت وغدا” ستجد نفسك حتما ذلك الوغد، أما “أبي الذي أكره” فسيكشف لك تقصير آبائك في حقك وتكرارهم أنماطا سلوكية تضر بتنشئة أطفالهم ويحذرك من أن تكون الأب الذي يكرهه أبناؤه، ليأتي “ممتلئ بالفراغ” ويكشف خواء النفس وفراغ أعماقها وبحثها الدائم عمّن يفهمها. لم أفهم محتوى هذه الكتب جيدا إلا بمتابعة فيديوهات الطبيب على موقع يوتيوب، فهو يمتلك قدرة عجيبة على الكلام والإقناع تختلف عن قدرته في الكتابة.
وكلمة إدمان قد تبدو خطيرة وكبيرة، ترتبط لدى الغالبية بإدمان المخدرات والكحول وينظر إلى مدمن هذه المواد في مجتمعاتنا العربية بنظرة فوقية تحتقر أفعاله وسلوكه الإدماني الذي يتحكم فيه، تذكر مثلا قصة إدمان الفنانة شيرين عبدالوهاب وكيف يهاجمها البعض من جمهورها كلما انتشرت أخبارها. لكن الإدمان في حقيقة الأمر أكبر من إدمان المخدرات والكحول، له أوجه قبيحة تظهر في سلوكياتنا، له أنياب يغرسها في حياتنا جميعا، هناك إدمان الأكل وإدمان النوم وإدمان العلاقات المؤذية وإدمان مشاهدة الأفلام الإباحية وإدمان سلوكيات قهرية كالكذب والسرقة وإدمان لعب دور الضحية وحتى إدمان الرياضة والأكل الصحي والقراءة والسفر والفكاهة وعذب الكلام.
كل فعل مكرر بصفة كبيرة يقف وراءه دافع قهري لا يستطيع الإنسان مقاومته ويرتبط عادة بشعور عميق، شعور يتخفى كشبح يهرب الإنسان من مواجهته، أو أنه لم يدركه بعد، فأزمة الغالبية أنهم ينظرون إلى أنفسهم بمثالية، يرون أنفسهم كاملين لا يمكن أن يصيبهم قصور.
قد يكون هذا الشعور خوفا دفينا، أو عجزا عن التواصل مع الآخرين، أو قلقا من المستقبل، أو عدم رضا عن النفس، أو تأنيب ضمير مستمر، أو شعورا بالقلة، فنحن قد توارثنا جميعا شعورا بأن أفعالنا وأقوالنا وقيمنا “ليست كافية”، حتى العبادات تحولت من ضوابط أوضحها وشرحها الله إلى منافسة بين من يسبّح أكبر عدد من التسبيحات ومن يصلي أكثر عدد من الركعات ومن يصوم أكبر عدد من الأيام. هكذا جعلوك تشعر دائما بتقصيرك.
يختصرها عماد رشاد بالقول “تأتي تلك الأعراض الجسدية (الإدمانية) كتحويل أو ما نسميه ‘جسدنة‘ للمشاعر التي لم نبح بها، إننا نعاني من خلل في التعرف على المشاعر وخلل في إدارتها. والمشاعر دَيْنٌ واجب الوفاء.” ولأنها دين لا بد أن تسدده، عليك مراقبة سلوكك واكتشاف إدمانك وجعل حياتك رحلة للتعافي ولإصلاح ما يمكن إصلاحه، وفهم أن الكبت يظهر على هيئة سلوكية قهرية وأمراض نفس – جسدية.