عاهدت نفسي كل مناسبة روحية أن آخذ قسطا من الراحة حتى من نفسي. هذه المقالة ليست استثناء، فقد أرسلتها على جناح السرعة من واشنطن إلى عمّان محفوظة بوعد الميلاد وعهده.
إنه الميلاد المجيد المتجدد لمن أراد يوميا والمُحتفل به في العالم مرتين بحسب التقويم الشرقي والغربي. البهجة والسرور تغمر الجميع حتى من لا ينتمون إلى العهد الجديد، فالسيد المسيح باعتراف العالم كله رمز المحبة والسلام، خالد خلود الكلمة. كلمة كن، فكان كل شيء.
مهما تحاوروا في الأديان وبين المذاهب والطوائف، مهما ناور اللادينيين واللا أدريين والملحدين حتى «عبدة الشيطان» يعلمون أن شيئا ما مختلفا في المسيح وأتباعه.
السر ليس مكتوما ولا صعبا بل غاية في الوضوح والبساطة. هو اسم من أسمائه وصفاته وهباته المجانية، المدفوعة سلفا. هي المحبة، سر أسرار «ملح الأرض ونور العالم» كما سماهم السيد المسيح، وهم كما في الأردن حيث المعمودية ومعبر الرسالة ومستقرها، هم قرامي البلاد وعظام الرقبة.
حتى لا يكون الأمر شخصيا، أتمنى من العارفين في تاريخ الشعوب والقبائل في مشرقنا العظيم أن يعملوا عمل طائفة من الطوائف المسيحية الأمريكية التي تُعلي شأن الأسرة والعشيرة عاليا. دون ذكر اسمها حتى لا يصير الأمر تبشيرا أو دعاية، تُعنى تلك الطائفة الأمريكية -الخاصة من حيث مولدها في بلاد العم سام ومركزية انتشارها في العالم- بدراسة شجرة العائلة لكل منتسب إلى كنيستها (رعيتها). قد يكون من الجميل دراسة وإشهار جذور عشائرنا شرقي النهر وغربه، من مسلمين ومسيحيين. ولدينا إرث وتراث زاخر من المؤرخين الأردنيين والأدباء الكبار من أمثال روكس بن زائد العزيزي.
غساسنة كنا وسنبقى. الأخوة الروحية بين المسيحيين والمسلمين عبر نهر الأردن، أردن القداسة والرسالة، ليست أخوة رمزية فقط، وليست وحدة وطنية فحسب، بل هي أبناء عمومة وخؤولة ترجع الكثير من أصولها إلى أخوة وأشقاء فرّقتهم عاديات الزمان قديمه وحديثه، ممن بطشوا بالقوة أو السطوة على الحقوق من الغرباء، من خارج هذه الأراضي المقدسة.
أحرص كل عام في هذه الأوقات المباركة على حضور معرض أو المشاركة بمسيرة نورانية تضيء الأشجار والمباني والسيارات بألوان الميلاد المجيد الحمراء والخضراء (رمزا للمحبة والسلام- الفداء والنماء) والبيضاء والزرقاء (لارتباط اللونين بالطهر والقداسة).
لا أذيع سرا أن من أعرق التقاليد الكرسمسية في بلاد العم سام حرص الأسر على ابتكار تقاليد خاصة بها تتوارثها عبر الأجيال. من تلك التقاليد ما تعرف بالألعاب الجماعية في جو عائلي لا تكلّف فيه. يراعى في الألعاب المعدة منزليا -يدويا وإن أمكن جماعيا- البساطة وسهولة مشاركة الجميع فيها على اختلاف أعمارهم وقدراتهم. من تلك الألعاب الأسرية التي قد يدعى إليها صديق أو جار «من عظام الرقبة»، لعبة التحدي. طبعا بالمعنى الإيجابي الخيّر للتحدي لا كتلك الألعاب الإلكترونية الشيطانية التي أزهقت أرواح كثير من الأطفال والمراهقين ولا أريد ذكر اسمها لاعتبارات لا تخفى على القراء الكرام.
التحدي هنا ليس بمعنى أتحداك التنافسي العدائي، بل بمعنى التشجيع الأخوي واستنفار أولي العزم وشحذ الهمم. وعليه، كم جميل أن نتحدى بعضنا بعضا ولو مرة سنويا: أي منا أكثر قدرة على المحبة؟ فإن لم يكن فعلى المغفرة؟ فإن لم يكن فالغفران دون النسيان؟ فإن تعذر ذلك، فلا تكن أبدا الكراهية ولا البغضاء، لا القطيعة ولا الجفاء.
تراها شيء كبير، المحبة.. «مين قدها»؟
سنة 2024 مْوَدْعَة! أيام وتنقضي. لعل خير ما نستهل به عاما جديدا، تحدٍّ من هذا الوزن الخفيف-الثقيل. قبل أن نتحدث عن «سلام الشجعان» ومصالحات في هذه البلاد القريبة أو تلك البعيدة، ليس أجمل من محبتنا لبعضنا بعضا. وتبدأ على عكس ما يروج له البعض، تبدأ بأن تحب نفسك وأهل بيتك وعشيرتك وجيرانك وزملاءك ورفاقك ليس بالحزب ولكن بمسارب الطرق ومصاف الكراجات -بفاليه وبدون فاليه- هكذا حتى لا يعبّر أي أمين عام للأمم المتحدة عن «قلقه» أبدا!!
في عيد الميلاد، أتحداك* بشار جرار
7
المقالة السابقة