عروبة الإخباري –
العرب – حنان مبروك –
تستكمل فرقة “كلندستينو” للإنتاج المسرحي بتونس، تحت إشراف المخرج وليد الدغسني، مسيرتها في تقديم مسرح سياسي تحريضي، دون أي تردد في التراجع عن ذلك بل هي تبدي تعمقا أكبر في الراهن السياسي التونسي وانعكاساته على بقية المجالات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وحتى البيئية.
هذه المرة، يخرج الدغسني نصا ألفه منير العماري، المعروف بكتاباته المشاكسة للسياسة والتي تضع الواقع التونسي على طاولة التشريح الفني وتناقش أوضاع البلاد بكثير من الجرأة والكوميديا السوداء.
يحمل العمل عنوان “وصايا الديك” وهو من أداء منير العماري وأسامة كوشكار وملابس عبدالسلام الجمل ،سينوغرافيا صبري العتروس وصوت وإضاءة محمد الهادي بلخير.
العمل الذي يعرض منذ أكتوبر الماضي ويشارك هذه الفترة في مهرجان المسرح التونسي “مواسم الإبداع” في دورته الثانية، تم التقديم له بأنه ” يستمد إلهامه من الوضع الراهن في تونس، وتأثير الأحداث الجارية على الفنانين، ويطرح تساؤلات حول الواقع الاجتماعي والسياسي من خلال رؤية نقدية ساخرة، تمزج بين بالكوميديا السوداء والتأمل في واقع المجتمع التونسي، كما يعالج العديد من الإشكاليات المعاصرة للمجتمع التونسي بعد التغيرات الاجتماعية والسياسية التي طرأت عليه خلال السنوات الأخيرة”.
بين الرمز والحقيقة
“وصايا الديك” عنوان مؤلف من قسمين، مستفز لعقل المتلقي، فمنذ قراءته يحرضنا هذا العمل المسرحي على التفكير في ماذا يمكن أن يكون محتوى العرض؟
أما الوصايا فهي كما هي معلومة لدى الغالبية أمر يتعهد به الإنسان خلال حياته لشخص آخر أو لجهة معلومة على أن ينفذ بعد موته، وتتخذ أشكالا عديدة توضحها الأديان ومنها الإسلام الذي يولي اهتماما كبيرا بالوصية. وفي القانون التونسي، هناك توضيح أن الوصية سواء كانت اختيارية (باختيار الموصي) أو واجبة (كما أمر الشرع) تلغى لعدة أسباب، وتمنع بقتل الموصى له للموصي عمدا أو تسببه في قتله وكان راشدا قد تجاوز سن البلوغ.
وأما الديك فيرمز صياحه في أساطير العالم لشروق الشمس، وتذكر الميثولوجيا اليونانية أن الكتريون صدیق الإله مارس الأثير وعشيق أفروديت كان عليه أن ينبه الإله بغروب وشروق الشمس، لكنه أخذته سنة من النوم، فاكتشف إله الشمس علاقتهما الآثمة، فعاقب مارس صديقه بأن مسخه ديكا، لذلك ظل يحاول أن يصحح خطأه، فيعلن بصياحه قرب شروق الشمس.
وكان هذا هو السبب في أن اليونانيين كانوا يوحدون بين هذا الطائر وبين الإله أبوللو إله الشمس، لكنهم يربطون بينه وبين الإلهة ديمتر وبين ابنتها برسفوني أيضا بوصفها رمزا للخصوبة، ويستخدم الديك كقربان يقدم لكثرة من الآلهة. وعند شعب الأزتيك بالمكسيك كثيرا ما يستبدل الديك بالقربان البشري. وكان الرومان يقدمونه قربانا للإله مارس إله الحرب، لكنه كان يقدم كذلك مع الثعبان، قربانا للإله أسكلبيوس إله الطب والشفاء، وكذلك كان يفعل اليونان.
وفي التراث المسيحي أيضا ارتبط الديك بانكار القديس بطرس للمسيح. كما روت الأناجيل: “إنك قبل أن يصيح الديك تكون قد أنكرتني ثلاث مرات”.
عمل مسرحي سياسي ساخر مشحون بالنقد والترميز يحرضنا من خلاله الدغسني على إعادة التفكير في القضايا الحارقة
وصايا، ديك، إنكار، تصحيح للخطيئة، مالذي تريد أن تقوله لنا هذه المسرحية؟ كل ذلك سنكتشفه لاحقا، لكن الآن يكفي أن نقول أن اختيار العنوان كان ذكيا، حيث عرف من اختاره كيف يمزج بين مفردتين واسعتي الدلالة، مثيرتين للانتباه، جاذبتين للمتفرج، كما تضفيان بهجة وتستفزان الخيال الخصب والعقل على البحث في جذورهما.
وإن كان العنوان هو العتبة الأولى لأي عمل مسرحي، فإن السينوغرافيا بما تحتويه من عناصر كالديكور والمؤثرات السمعية والبصرية وفي مقدمتها تحديدا الموسيقى، إلى جانب الأزياء، هي المدخل الأول للعمل المسرحي، المدخل الذي سيترك الانطباع الأول لدى المتفرج فيحرضه على المتابعة أو يصيبه بالنفور فيغادر.
وفي “وصايا الديك” سرعان ما ستلمح عين الناظر قلة عناصر الديكور، فهو ينحصر في كرسي عملاق أشبه بكرسي العرش يجلس عليه أحدهم مرتديا زي ملاكم ومجموعة من الصناديق الخشبية التي سيتنوع استخدامها، مرة مركب، ومرة صناديق ملابس ومرة كرسيا، وأحيانا طاولة. وفي عمق الخشبة، هناك شاشة عملاقة ستتحول لاحقا إلى محمل لعرض مشاهد ومقتطفات فيديو.
في مكان وزمان مجهولين، وبأضواء صفراء خافتة مسلطة على الشخصيتين الوحيدتين على الخشبة، نستكشف تدريجيا العلاقة بينهما، صراعاتهما وأكبر مخاوفهما ونقاط ضعفهما النفسية، إنهما حاكم ومحكوم، ملك ومستشاره، صديقان أم عدوان هما؟
غبيان أم ذكيان؟ نحن لا ندري، فما يكشفانه لنا حتى الآن هو أن الطاعون فتك بالمدينة وتريسياس بعث بوصية للملك مع مستشاره لينفذها وينقذ شعبه. يحاول المستشار إقناع الحاكم بأن يخطب في “الأموات” ويقنعهم بأن الحياة لا تزال ممكنة. إنها لعنة حلت بالمكان لأنّ الحاكم قتل ولم يعترف بجريمته.
يستعيد وليد الدغسني في هذه المسرحية رمزين من الميثولوجيا الإغريقية، الحكيم الأعمى تيريسياس وهو أشهر عراف في الأساطير الإغريقية، والملك أوديب قاتل والده الذي لا يدرك حقيقة جرمه، ورغم أنه تيريسياس يدرك الحقيقة إلا أنه في الأسطورة لم يخبر أوديب بها لأنه أدرك أن الملك لن يتقبل الحقيقة وسيتحول إلى شخص عدواني. ثم تراجع عن ذلك وأخبره أنه قاتل والده وأن الطاعون فتك بشعبه وبلده لأن القاتل لم يقبض عليه.
وبالفعل يحدث ما توقعه الحكيم، يرفض أوديب الأمر، يتجادل الاثنان بحدة ويسخر أوديب من عمى تيريسياس الذي يخبره بأنه أعمى أيضًا.
هذه المرة يغيب تيريسياس، يظل شخصية متخيلة يتكلم عنها مستشار الملك، كذلك مستشاره الثاني طارق، الذي يبدو غائبا حاضرا، مؤثرا في الكثير من تطورات النص المسرحي، لكن هذا المستشار “الأبله” كما يصفه ملكه، يصرخ فيه بكلمات تيريسياس “أنت هو المجرم الذي نبحث عنه”.
نص مسرحي يبتعد عن المباشرتية في الكثير من مواضعه، يختار الترميز والإشارة، ولا يعيدنا إلى المباشرة إلى ليضحكنا على مآسينا المشتركة، في تناغم كبير بين الممثلين منير العماري وأسامة كوشكار، فكلاهما تلبس شخصيته على طريقته، قدمها لنا بموهبة تتكامل مع الآخر، يظهران تلقائية في الحركة وفي التقاط شيفرات النص وتجسيدها على الخشبة.
في هذا النص المسرحي يتمرد أوديب ويلتزم بتمرده ويرفض كل أوجه الحقيقة ويستلذ عذاب شعبه ويستمتع بهلاكه. “أنا لست أوديب، لن أفقئ عيني ولن أعترف بجرم لم أرتكبه”. يود أن يقول لنا إن “كرسي العرش/ الحكم” لعنة تصيب كل من يجلس عليه، لعنة تصرف انتباهه عن الدولة ومشاكلها.
المسرحية تستعيد رمزين من الميثولوجيا الإغريقية، الحكيم الأعمى تيريسياس والملك أوديب قاتل والده الذي لا يدرك حقيقة جرمه
الأرض عقرت والسماء توقفت عن البكاء، الشباب بعضه أكله البحر والآخر حملته قوارب الموت نحو أوروبا، الفنان جاع منتظرا الدعم العمومي وقانون الفنان ليمنحانه “الحرية والكرامة”، النساء عزفن على الإنجاب، والرجال لزموا المقاهي ومباريات كرة القدم، لا أثر للماء والكهرباء، في حين تنتشر التفاهة بأشكالها في الأجواء، وينشغل الحاكم بالعالم الافتراضي. هي كلها مواضيع تشير إلى لعنة الانفراد بالسلطة ورغبة السياسيين في التفرد بالحكم حد تشويه الخصوم والزج بهم في السجون. نحن في المسرحية أيضا أمام صراع واضح بين شعب يريد الديمقراطية وحاكم يرى أن ديكتاتوريته هي أفضل أوجه الديمقراطية.
وانطلاقا من الترميز وصولا إلى البوح بحقائق موجعة، ينتقد الدغسني في “وصايا الديك” انتشار التفاهة، فحتى الملك الحاكم بأمره في العمل مولع بالأفلام، يقضي حياته بين مشاهدتها والسكر، حتى نسي واقعه وأصبحت التفاهة هي الحقيقة المطلقة والسيد الأوحد.
نص مسرحي جريء وممتع يمزج الفلسفة والأسطورة بالفن ليقدم قراءة موجعة للواقع، تجعل من “وصايا الديك” عملا سياسيا محرضا وساخرا، مشحونا بالنقد والترميز يحرضنا من خلاله الدغسني على إعادة التفكير في القضايا الحارقة في تونس، محاولا جعل الجمهور جزءا من اللعبة المسرحية، فالحكاية لا تكتمل بمجرد العرض وإنما تثبت نجاحها إن حرضت المتلقي على إعادة النظر في كل الأشياء والأحداث من حوله.