ثانت مينت-يو* – (فورين أفيرز) 25/10/2024
يرى ريتشارد فولك وهانز فون سبونيك، في كتابهما “تحرير الأمم المتحدة”، أن إصلاح المنظمة وتوسيع مجلس الأمن ضرورة ملحة للتصدي للتحديات العالمية، مثل تغير المناخ والنزاعات المسلحة.
* * *
تكاد تكون مساعي إصلاح الأمم المتحدة قديمة قِدم المنظمة نفسها. فقبل 80 عاماً، تصور قادة الحلفاء نظاماً لما بعد الحرب تتعاون فيه القوى العظمى معاً لضمان السلام الدائم. وكان مجلس الأمن الذي يهيمن عليه أعضاؤه الخمسة المتمتعون بحق النقض (الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي والمملكة المتحدة وفرنسا والصين)، يعبر عن واقع النظام العالمي في تلك الحقبة. وكانت الأجزاء الأخرى الأقل هرمية في نظام الأمم المتحدة الجديد تهدف إلى تعزيز التعاون الدولي في مجموعة من القضايا، مثل الاقتصاد العالمي والصحة العامة والزراعة والتعليم. وكانت بوادر تشكيل حكومة عالمية مستقبلية واضحة منذ البداية.
أنشئت منظمة الأمم المتحدة في الأصل كتحالف عسكري، لكن هذا الهدف أصبح مستحيلاً مع اندلاع الحرب الباردة. وفي الواقع، توقع كثير من المراقبين نهاية مبكرة للأمم المتحدة، لكنها صمدت وسرعان ما تجددت طاقتها، فصاغت أهدافاً لم يتخيلها مؤسسوها، مثل تنفيذ عمليات حفظ السلام. وبزغ نجم منصب “الأمين العام للأمم المتحدة” على الساحة الدولية باعتباره أبرز دبلوماسي في العالم، الذي ينتقل إلى مناطق النزاعات في سبيل التفاوض على وقف لإطلاق النار. وعلاوة على ذلك، عملت الوكالات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة، مثل “منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة” (يونيسكو)، وبرامج المساعدة التقنية الجديدة، على توسيع آفاقها وبسط أجنحتها. وبالنسبة لبعض المسؤولين والعلماء والناشطين داخل الأمم المتحدة وخارجها، ظلت الرؤية المتفائلة عن الحكومة العالمية قائمة على الدوام.
من الواضح أن الباحث القانوني الأميركي ريتشارد فولك والدبلوماسي الألماني السابق هانز فون سبونيك ينتميان إلى المعسكر الذي يرغب في رؤية أمم متحدة أكثر قوة. وفي كتابهما المشترك “تحرير الأمم المتحدة”، يشددان على الحاجة إلى التحول إلى منظمة قادرة على التعامل بفاعلية مع التحديات الكثيرة التي يواجهها العالم اليوم، من تغير المناخ إلى انتشار الأسلحة النووية. وهما لا يريان أي بديل، لكنهما يعربان في الوقت نفسه عن أسفهما لحال الاختلال الوظيفي الذي وصلت إليه الأمم المتحدة حالياً وتزايد عزلتها وابتعادها عن القضايا الرئيسة في الوقت الراهن. ويؤكدان أن المنظمة العالمية “ضرورية اليوم أكثر من أي وقت مضى، إلا أن دورها السياسي أصبح أقل أهمية مما كان عليه مقارنة بأي وقت منذ تأسيسها في العام 1945”.
في كتابهما، يقدم المؤلفان نظرة شاملة حول الهياكل المعقدة في الأمم المتحدة ومهماتها متعددة الجوانب، ويبذلان جهداً حثيثاً في سبيل إقناع القراء بأن الاستثمار المتجدد في المنظمة هو أفضل مسار ممكن لمستقبل أكثر إشراقاً. وهما يعرضان تصوراً جديراً بالاهتمام عن هيئة عالمية مثالية، يتخيلان فيها مجلس أمن أعيد تشكيله وإصلاحه مرتبطا بمنظمات المجتمع المدني من جميع أنحاء العالم. بيد أن توجيهاتهما وحلولهما المقترحة لا تأخذ في الاعتبار بصورة كاملة التحديات المتعلقة بشرعية الأمم المتحدة ومكانتها. وبالنظر إلى واقع اليوم، يجب على أولئك الذين يؤمنون بالأهمية الدائمة للأمم المتحدة ألا يسعوا إلى جعل المؤسسة شاملة تلبي كل الحاجات للناس كافة، بل ينبغي عليهم التركيز بصورة دقيقة على تعزيز أهم وظائفها الأساسية، وهي منع اندلاع الحروب.
كما يروي فولك وفون سبونيك، أظهرت الأمم المتحدة خلال فترة عملها درجة كبيرة من الإبداع، حتى خلال حقبة الحرب الباردة، على الرغم من القيود التي فرضتها المنافسة بين القوى العظمى في تلك الحقبة. وكان هذا صحيحاً، خصوصاً في عهد داغ همرشولد الذي شغل منصب الأمين العام للمنظمة من العام 1953 حتى وفاته في العام 1961. وقد ابتكر أنواعاً جديدة من الدبلوماسية الوقائية. وكان النشر السريع لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة “الخوذ الزرقاء” أثناء أزمة السويس في العام 1956 مثالاً بارزاً على هذا الإبداع المبكر.
بحلول تسعينيات القرن العشرين، ومع انتهاء الحرب الباردة وزوال الفيتو الروسي الذي كان يشكل عائقاً أمام الهيمنة الأميركية، وسعت الأمم المتحدة نطاق عمليات حفظ السلام الخاصة بها والتي أثبتت نجاحها في أماكن بعيدة عن مراكز القوى مثل السلفادور وتيمور الشرقية. وأصبحت المنظمة رائدة فكرياً. فعوضاً عن التركيز على نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من أجل تقييم التقدم فحسب، صاغت المنظمة، على سبيل المثال، مفهوم التنمية البشرية.
بالنسبة لفولك وفون سبونيك، كانت هذه أيضاً فترة من الفرص الضائعة، إذ ركزت الولايات المتحدة طاقاتها على ترسيخ نظام دولي جديد يفضي إلى ترسيخ الرأسمالية العالمية بدلاً من بناء الأساس لحكومة عالمية تتمحور حول الأمم المتحدة. وحدثت سلسلة من الإخفاقات في مهمات حفظ السلام، من البوسنة إلى رواندا، والتي ألقت بظلالها على الفترة التي سبقت نهاية القرن. وفي ذلك الوقت، كانت الحماسة التي أبداها العالم تجاه الأمم المتحدة بعد الحرب الباردة قد تلاشت إلى حد كبير. وكان الغزو الأميركي للعراق من دون موافقة الأمم المتحدة بمثابة نقطة انحدار جديدة للمنظمة، وأظهرت عجزها في مواجهة عدوانية القوى العظمى. واليوم، يقول فولك وفون سبونيك إن المنظمة في مواجهة “رد فعل قومي متطرف وغير فاعل”، أصبحت مقيدة أكثر من أي وقت مضى ولا تحظى بدعم سياسي يذكر لإجراء التعديلات اللازمة على ميثاق الأمم المتحدة، من نوع إصلاح بنية مجلس الأمن.
لكن هناك مشكلات تتعلق بسرد الأحداث التاريخية في الكتاب. على سبيل المثال، يصف المؤلفان بصورة خاطئة الأزمة التي حدثت في جمهورية الكونغو وتدخلت فيها الأمم المتحدة في العام 1960، على أنها ناجمة بشكل أساسي عن “الصراعات القبلية والإقليمية العرقية”، بينما كانت في الواقع تتعلق بمحاولات العنصريين البيض الحفاظ على هيمنتهم على الكونغو، وخاصة ثرواتها المعدنية الهائلة، بعد أن نالت البلاد استقلالها عن بلجيكا. ويخطئ المؤلفان أيضاً في الإشارة إلى أن همرشولد كان يؤيد ما يصفانه بصورة غريبة بأنه “القومية الاقتصادية الراديكالية” التي تبناها رئيس وزراء الكونغو باتريس لومومبا. وفي الحقيقة، كان الرجلان على خلاف واضح، وكان بعض من مساعدي همرشولد على الأقل، إن لم يكُن الأمين العام نفسه، متواطئين في الإطاحة بلومومبا في العام 1960.
لكن الأهم بكثير هو ما يغيب عن رواية المؤلفين تماماً. بالنسبة لمعظم شعوب أفريقيا وآسيا تقريباً، كان تاريخ القرن العشرين في المقام الأول تاريخاً للإمبريالية ولنضالاتهم الطويلة من أجل الحرية. في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، عمل ممثلو الدول المستقلة حديثاً الذين أطلقوا على أنفسهم تسمية “الأفارقة – الآسيويين”، على تحويل الأمم المتحدة، وإيصالها إلى ذروة طموحها وقوتها. وكانت الأمم المتحدة تشكل الآلية التي أكدوا من خلالها على استقلال ناضلوا كثيراً من أجل تحقيقه، ورسخوا سيادتهم وحافظوا عليها. وبالنسبة لهم، كانت الكونغو اختباراً يوضح لهم ما إذا كان تفوق العرق الأبيض سيظل قائماً في عالم ما بعد الاستعمار.
أعلام الدول الأعضاء ترفرف أمام مقر الأمم المتحدة في نيويورك – (المصدر)
يشير فولك وفون سبونيك بصورة صحيحة إلى الدور الحاسم الذي لعبته الأمم المتحدة منذ بدايتها بشأن النضال ضد العنصرية على مستوى العالم عموماً وضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا خصوصاً. لكنهما يخطئان في الإشارة إلى أن الحكومات غير الغربية كانت تركز على تطوير اقتصاد عالمي عادل أكثر من اهتمامها بمنع الحرب. بالنسبة للأفارقة – الآسيويين، كان السلام والتنمية وتطبيق حقوق الإنسان أجزاء مترابطة من مشروع أكبر يتعلق بالمساواة في مرحلة ما بعد الإمبريالية.
لقد احتضن الأفارقة – الآسيويون الأمم المتحدة وناصروها. وفي العام 1961 اضطلعوا بدور فاعل في تعيين واحد منهم أميناً عاماً، وهو الدبلوماسي البورمي يو-ثانت (جد كاتب هذه المقالة). وفي العام 1962، بالتعاون الوثيق مع زعماء أفارقة – آسيويين آخرين، كان لثانت دور هائل ومحوري في خفض التصعيد خلال أزمة الصواريخ الكوبية (وهو دور لا يذكر في معظم الروايات). وكانت جهوده في الوساطة بين الرئيس الأميركي جون كينيدي ورئيس الوزراء السوفياتي نيكيتا خروتشوف والثوري الكوبي فيديل كاسترو بمثابة ذروة عمل المنظمة في منع اندلاع الحرب. وفي حين كان مجلس الأمن غالباً ما يشهد حالة من الجمود، كان الأمين العام وفريقه من الوسطاء أكثر نشاطاً من أي وقت مضى في معالجة مجموعة متنوعة من النزاعات، من قبرص والهند إلى باكستان وفيتنام. ويذكر أن سجل الأمم المتحدة في جهود صنع السلام التي كانت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بصعود ما كان يسمى آنذاك غالبية “العالم الثالث”، غائب عن الكتاب.
يتناول كتاب “تحرير الأمم المتحدة” بعمق تجارب المؤلفين داخل المنظمة. ففولك الذي عمل طوال عقود أستاذاً للقانون الدولي في جامعة برينستون، شغل في أوائل العقد الثاني من القرن العشرين منصب المقرر الخاص للأمم المتحدة حول حالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967. وكان فون سبونيك، وهو موظف دولي محترف، منسق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة في العراق في أواخر تسعينيات القرن العشرين، قبل أن يستقيل احتجاجاً على حجم الأذى الذي ألحقته العقوبات الدولية بالمدنيين العراقيين. وكلاهما يُظهران الطرق المتعددة التي أُحبطت بها جهودهما بسبب عوامل جيوسياسية تتعلق بمصالح الولايات المتحدة وحكومات قوية أخرى. ووراء رواياتهما تكمن التوترات المركزية التي يدور حولها الكتاب: من جهة، رغبة المؤلفين في رؤية الأمم المتحدة وهي تتحول إلى نوع من الحكومة العالمية، ومن جهة أخرى التيارات السياسية التي تعرقل تحقيق هذا الهدف.
في الكتاب، يعبر فولك وفون سبونيك عن “حيرتهما” إزاء عدم قدرة الأمم المتحدة على “كسب الزخم السياسي اللازم” لجعل نفسها الأداة الفاعلة المنشودة لإرساء السلام. ويؤكدان أنه على مر العقود، على الرغم من العقبات الهائلة، أثبتت الأمم المتحدة أنها “عنصر لا غنى عنه في نظام عالمي مستدام وإيجابي”. ومع مزيد من التمويل، “ومزيد من ضبط النفس من الفاعلين الجيوسياسيين، ومزيد من التقدير من الحكومات الأعضاء والمجتمعات المدنية ووسائل الإعلام”، يمكن أن تحقق الهيئة العالمية إنجازات جديدة مرة أخرى.
لكن العائق، كما يراه المؤلفان، هو “شكل من أشكال ‘الواقعية السياسية’ عفا عليه الزمن، وسيتطلب التغلب عليه نضالاً أيديولوجياً”. فالحكومات محاصرة في حساباتها الجيوسياسية الخاصة ولا تدرك أن الحل الوحيد للتحديات العالمية اليوم هو أمم متحدة معادة التشكيل وإصلاحها لتكون في صميم التعاون العالمي النشط. ومن أجل تحقيق ذلك، يدعوان إلى “حركة تقدمية للشعوب تتجاوز الحدود الوطنية”، وتكون “قوية بما يكفي للتأثير بصورة إيجابية في الممارسات الحكومية والمؤسسات الدولية”. ولن تكون الأمم المتحدة قادرة على معالجة “مشكلات هيكلية أساسية مثل الرأسمالية المفترسة والعسكرة العالمية وعدم الاستدامة البيئية” إلا من خلال هذا النوع من الزخم الشعبي واسع النطاق.
لا شك في أن المؤلفين محقان في الاعتقاد بأن الأمم المتحدة لم تنجُ فحسب، بل نجحت كذلك في عدد من المجالات والسياقات. فقد أنتجت مجموعة من القوانين الدولية غير المسبوقة في التاريخ. وستكون وكالاتها الإنسانية صعبة الاستبدال. وفي حال حدوث جائحة أخرى، ستكون “منظمة الصحة العالمية”، بكل ما فيها من عيوب، الوحيدة القادرة على تنسيق استجابة عالمية حقاً.
يضع فولك وفون سبونيك على رأس أولوياتهما الحاجة إلى تحديث تركيبة مجلس الأمن الذي ما يزال عالقاً في تشكيلة تعود إلى حقبة الحرب العالمية الثانية. وهناك عدد قليل من الحجج الجيدة، إن وُجدت، التي تبرر حرمان دول مثل الهند من مكانة تضاهي على الأقل مكانة المملكة المتحدة أو حرمان الدول غير الغربية من تمثيل أكبر بصورة عامة. وخلال العقود الأخيرة، كانت قصة مجلس الأمن تدور حول هيئة تهيمن عليها خمس دول غنية تتشاور حول النزاعات في الدول ذات الدخل المنخفض. هذا الطابع غير التمثيلي للأعضاء الدائمين الخمسة يقود إلى مجموعة من أوجه عدم المساواة، مثل التعيينات المنحازة إلى المسؤولين الكبار التي تتغلغل في نظام الأمم المتحدة. ومن السهل أن نفهم لماذا تراجعت الحماسة تجاه الأمم المتحدة بصورة مطردة في معظم أنحاء العالم.
لكن أي محاولة لإصلاح الأمم المتحدة اليوم ستواجه رياحاً سياسية عاتية. فمن الصعب تخيل حزمة من التغييرات في عضوية مجلس الأمن يمكن أن تحظى بدعم الأعضاء الدائمين الحاليين. وليس من الواضح أن أي تغيير في تركيبة مجلس الأمن، مهما كان مفيداً لشرعية الأمم المتحدة، سيحسن من فاعلية المنظمة. وقد تكون النتيجة الوحيدة هي ظهور أنواع جديدة من الجمود (ولو أن ذلك قد يأتي بنقاشات أكثر إثارة للاهتمام).
وهناك أيضاً تحد أكثر جوهرية هو تعدد القنوات البديلة المتاحة أمام الحكومات لتحقيق مصالحها، بما في ذلك الاتفاقات الثنائية والمنظمات الإقليمية مثل “الناتو” والمنتديات مثل “مجموعة الـ20”. وكان مقر الأمم المتحدة في نيويورك يوماً ما المكان هو الوحيد في العالم حيث يمكن أن يجتمع ممثلون من مختلف الدول. وكانت هناك قلة من القمم الأخرى. وخلال أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن العشرين كانت الاجتماعات السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة في صميم السياسة العالمية، وكان كل من كينيدي وخروتشوف وثوار مناهضة الاستعمار، ومن بينهم رئيس غانا كوامي نكروما والرئيس المصري جمال عبد الناصر، يؤدون أدوارهم البطولية على مسرح درامي جذبَ انتباه العالم.
يختتم فولك وفون سبونك بالقول إن الأحادية الأميركية هي التي تقيد الأمم المتحدة، إذ إن واشنطن لا ترغب في الاستثمار في تجديد المنظمة. لكن من المؤكد أن الولايات المتحدة ليست الوحيدة التي تسعى إلى العمل خارج نطاق الأمم المتحدة. وبالنسبة إلى الدول الصغيرة، قد تكون الأمم المتحدة الساحة الوحيدة التي تمنحها فرصة الجلوس على قدم المساواة مع الدول الأخرى. لكن بالنسبة إلى الدول الأخرى، مثل القوى الصاعدة المتوسطة في العالم، هناك قائمة متزايدة من الخيارات المتاحة.
ثمة تحد أعمق يتمثل في طبيعة الأمم المتحدة نفسها. فعلى مر العقود، طورت الأمم المتحدة ثقافتها ولغتها وأساليب عملها الخاصة، وهي إنجازات قيمة ناتجة عن المحاولة الوحيدة لبناء مؤسسة تشمل البشرية جمعاء. ولكنها طورت أيضاً اعتماداً مفرطاً على الإجراءات بدلاً من النتائج. إن الرغبة الفطرية والمتأصلة لدى المنظمة في أن تعبر عن آراء الجميع، في كل فقرة من كل نص، سواء في تعميم إداري أو في قرار للجمعية العامة، غالباً ما تجرد الجهود ذات النوايا الحسنة من معانيها وقيمتها.
وفي المقابل، تشكل الطريقة التي تدير بها الأمم المتحدة كوادرها قضية شائكة أخرى. تضم المنظمة جحافل من الموظفين العموميين، بمن في ذلك العاملون في مجال الإغاثة وقوات حفظ السلام الذين يلتزمون بمبادئها السامية ويؤدون واجباتهم بشجاعة في أغلب الأحيان في أصعب الظروف. لكن قلة منهم استفادوا من الإدارة الجيدة. ونادراً ما يحظى الأكثر كفاءة بالتقدير اللازم لمهاراتهم وتضحياتهم. في الواقع، تصر الحكومات، بخاصة القوى العظمى، على تعيين مرشحيها (غالباً غير المؤهلين) في المناصب العليا، مما يخلق خللاً في قلب النظام يؤثر سلباً على المعنويات والكفاءة. ولكي تكون الأمم المتحدة فاعلة، تحتاج في جوهرها إلى خدمة مدنية متحمسة ومحفزة تضم النساء والرجال الأكثر كفاءة من مختلف أنحاء العالم. وهو مجال إصلاح لا يكاد يحظى بأي اهتمام.
السيناريو الافتراضي هو أن تستمر الأمم المتحدة المفتقرة إلى الإصلاحات أو التي شهدت إصلاحات طفيفة في تطوير مجموعة متنوعة من المهمات (مثل حماية اللاجئين وتسهيل مفاوضات تغير المناخ وتقديم المساعدة الإنمائية)، التي تتقنها بصورة جيدة في بعض المجالات، بينما تتعثر في مجالات أخرى. وتبقي مؤتمراتها الحوار حول القضايا العالمية حياً، حتى لو لم تحل بالضرورة المشكلات العالمية، وفي بعض الأحيان، توفر منصة لمنظمات المجتمع المدني الدولية المختلفة. لكن المشكلة في هذا السيناريو الراهن هي أن المنظمة، من خلال تشتيت جهودها، تُبعد نفسها عن الغاية الأساسية المتمثلة في منع الحرب.
في المستقبل المنظور، من المرجح أن يظل مجلس الأمن، وهو الهيئة الرئيسة المسؤولة عن السلام والأمن الدوليين، غير قادر على معالجة التهديدات الأساسية في الوقت الراهن، بما في ذلك الغزو الروسي لأوكرانيا والنزاعات في الشرق الأوسط والنزاعات حول تايوان والأراضي في بحر الصين الجنوبي. ويذكر أن التوترات بين القوى العظمى داخل مجلس الأمن ليست جديدة، لكن ينبغي ألا تعرقل الدبلوماسية الوقائية والوساطة. ولقد حقق كل من همرشولد وثانت أهم إنجازاتهما في صنع السلام خلال الحرب الباردة، في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الـ20. وفي أواخر الثمانينيات، أتاحت الوساطة الهادئة التي قام بها الأمين العام خافيير بيريز دي كوييار إمكان التوصل إلى اتفاقات سلام عدة مهدت الطريق لإنهاء الحرب الباردة نفسها.
في غياب مجلس أمن ديناميكي وخاضع للإصلاح، يكمن مفتاح نجاح الأمم المتحدة في المستقبل في دور الأمين العام باعتباره أبرز دبلوماسي في العالم. إن السلام هو المهمة الأساسية للأمم المتحدة. وهناك نزاعات كثيرة يمكن حلها من دون أي تدخل للأمم المتحدة. لكن الأعوام الـ80 الماضية، أثبتت أن الأمين العام، باعتباره وسيطاً محايداً يمثل هيئة عالمية، يمكن أن يكون في بعض الأحيان لا غنى عنه. وإذا نُحي الأمين العام جانباً في قضايا الحرب والسلام، فسيكون نفوذه محدوداً للغاية في قيادة التحديات العالمية الأخرى، مثل تغير المناخ والتنمية.
يتوقع الناس من الأمم المتحدة قيادة الجهود الرامية إلى إنهاء الحرب. وفي الوقت الحاضر، تدمر حروب جديدة فظيعة حياة الملايين وتزيد خطر المواجهة النووية. نحن في فترة مختلفة تماماً عن تسعينيات القرن العشرين، حينما كانت جميع القوى العظمى راضية عن إرسال مهمات حفظ السلام لإنهاء النزاعات الداخلية. لقد عاد العالم إلى فترة من الحروب بين الدول، مع أن ذلك بالضبط هو ما كانت الأمم المتحدة تهدف إلى منعه.
نظراً إلى أن فرص إصلاح الأمم المتحدة محدودة، فإن أي فرصة متاحة يجب أن تستغل بكفاءة من أجل إعادة إحياء وتعزيز دور الأمين العام في صنع السلام، ليشمل التعامل مع النزاعات الداخلية وكذلك الحروب بين الدول. وسيستلزم هذا الأمر بناء فريق من الوسطاء الداخليين ذوي الخبرة الذين لديهم معرفة عميقة بقدرات المنظمة وحدود إمكاناتها. في الماضي، حققت الأمم المتحدة نجاحات كبيرة بفضل قيادة شخصيات مثل الحائز جائزة نوبل، رالف بانش، الذي خدم تحت إدارة كل من همرشولد وثانت وكان له دور حاسم في عشرات الجهود الرامية إلى تحقيق السلام حول العالم.
غلاف كتاب “تحرير الأمم المتحدة: الواقعية مع الأمل”، لريتشارد فولك وهانز فون سبونيك – (المصدر)
في هذه اللحظة الخطرة والملتبسة، يمكن للأمين العام للأمم المتحدة أن يستكشف ويخلق فرصاً لحل النزاعات. وفي الواقع، لا تملك أي هيئة أخرى السلطة والمصداقية للاضطلاع بهذا الدور. وعلى مدى الأعوام المقبلة، قد يكون هو العنصر الذي يحدد مصير العالم بين الحرب والسلام العالميين.
*ثانت مينت-يو: مؤرخ ومؤلف كتاب “تاريخ بورما الخفي: العِرقية والرأسمالية وأزمة الديمقراطية في القرن الحادي والعشرين” والكتاب الذي سيصدر قريباً “صانع السلام: يو ثانت والسعي المنسي إلى عالم عادل”. بين العامين 2000 و2006، عمل في الأمانة العامة للأمم المتحدة في نيويورك. وقبل ذلك، شارك في بعثات حفظ السلام في كمبوديا ويوغوسلافيا السابقة.
مترجم عن “فورين أفيرز”، 22 أكتوبر (تشرين الأول) 2024.