سكوت ريتر: لماذا لم أعد أقف مع إسرائيل؟ ولن أقف معها مرة أخرى

بوابات غزة‏
‏”جاء المهاجمون عند الفجر واحتلوا البلدة بسرعة. تم فصل الرجال عن النساء وإطلاق النار عليهم. أحد المهاجمين، الذي فتح باب أحد المنازل، وجد رجلاً عجوزاً يقف هناك. أطلق النار عليه. وقال شاهد عيان على الهجوم بعد ذلك: ’لقد استمتع بإطلاق النار عليه‘.‏

سرعان ما أصبحت البلدة فارغة -قُتل أو طرد جميع السكان البالغ عددهم 5.000 نسمة، وتم وضع الناجين في شاحنات، ونُقلوا إلى غزة. ونهبت المنازل الفارغة. وقال أحد المشاركين بعد ذلك: ’كنا سعداء جداً. إذا لم تأخذها، فسوف يأخذها شخص آخر. إنك لا تشعر بأن عليك إعادتها. إنهم لن يعودوا‘”.‏
يبدو هذا وكأنه سرد مُستل من الصفحات الأولى لصحف اليوم، وهذه واحدة من العديد من القصص المماثلة -الكثيرة جداً التي لا يمكن عدها- التي تصف الفظائع التي ارتكبت ضد السكان المدنيين في البلدات الإسرائيلية والكيبوتسات المتاخمة لقطاع غزة الذي تسيطر عليه “حماس”.‏
‏لكنه ليس كذلك. إنها ذكريات يعقوب شاريت، ابن موشيه شاريت، أحد آباء إسرائيل المؤسسين، والموقع على “إعلان استقلال إسرائيل”، وأول وزير خارجية لإسرائيل، وثاني رئيس وزراء لها. كان يعقوب شاريت يروي قصة استيلاء الجنود الإسرائيليين على بلدة بئر السبع العربية في العام 1948 خلال “حرب الاستقلال” الإسرائيلية.‏
كجندي شاب يخدم في صحراء النقب في العام 1946، تم تعيين شاريت “‏‏مختاراً”‏‏ ‏‏-أو قائداً- لإحدى فرق الجنود الإحدى عشرة -كجزء من “خطة الـ11 نقطة” السريّة المصممة لإنشاء مواقع يهودية أمامية في صحراء النقب، والتي ستكون بمثابة موطئ قدم استراتيجي في المنطقة عندما تندلع الحرب المتوقعة بين الصهاينة الإسرائيليين والعرب.‏
‏كانت الصهيونية، كما كانت موجودة قبل العام 1948، حركة تهدف إلى إعادة تأسيس أمة يهودية على أراضي إسرائيل التوراتية. وقد تأسست كحركة سياسية، “المنظمة الصهيونية”، في العام 1897 تحت قيادة تيودور هرتزل. وعندما توفي هرتزل في العام 1904، تولى حاييم فايتسمان (وايزمان) قيادة المنظمة الصهيونية لاحقًا كمكافأة له على الضغط الذي مارسه من أجل تبني “وعد بلفور”، الذي ألزم الحكومة البريطانية بإنشاء دولة يهودية في فلسطين. وبقي فايتسمان رئيساً للمنظمة الصهيونية حتى تأسيس إسرائيل في العام 1948، وبعد ذلك تم انتخابه كأول رئيس لإسرائيل.
‏في العام 1946، وضعت “خطة التقسيم” -التي أصدرتها الأمم المتحدة لأراضي الانتداب البريطاني في فلسطين إلى قسمين عربي ويهودي- منطقة النقب في الجزء العربي. ووضع القادة الصهاينة لدولة إسرائيل المستقبلية، بقيادة ديفيد بن غوريون وموشيه شاريت وآخرين مكرسين لمبادئ الصهيونية، “خطة الـ11 نقطة” كوسيلة لتغيير الوضع الراهن الذي كان قائماً آنذاك في النقب، حيث عاش 500 يهودي في ثلاث بؤر استيطانية بين 250.000 عربي يقيمون في 247 قرية وبلدة في المنطقة. ومن شأن البؤر الاستيطانية الإحدى عشرة الجديدة أن تعزز الوجود الإسرائيلي في النقب، على نحو يخلق الظروف التي بموجبها، كما أشار المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي، “أغلبية السكان الأصليين الذين يعيشون على أرض أجدادهم” سيتم “تحويلهم بين عشية وضحاها إلى أقلية تحت حكم أجنبي”.‏
في ليلة 5 تشرين الأول (أكتوبر) 1946 -بعد يوم الغفران مباشرة- قاد يعقوب فريقه إلى النقب. وروى يعقوب: “أتذكر عندما وجدنا قطعتنا من الأرض على قمة تل قاحل. كان الظلام ما يزال قائماً، لكننا تمكنا من اقتلاع الأعمدة وسرعان ما أصبحنا داخل سياجنا. في الضوء الأول، جاءت الشاحنات محلملة بثكنات جاهزة. كان ذلك إنجازاً كبيراً. لقد عملنا مثل الشياطين”.‏
عندما كان يعقوب جزءاً من “حركة الشبيبة الصهيونية”، كان يتنقل في جميع أنحاء النقب سيراً على الأقدام، ويتعرف على القرى العربية، ويتعلم أسماءها العبرية كما هي موجودة في الكتاب المقدس. وبجانب مستوطنة يعقوب على قمة التل، التي أصبحت لاحقاً “كيبوتس حتسريم”، كانت هناك قرية عربية تدعى “أبو يحيى”. وكانت إحدى المهام التي أعطيت للكيبوتسات في حتسريم هي جمع معلومات استخباراتية عن العرب المحليين، والتي سيستخدمها المخططون العسكريون الإسرائيليون الذين كانوا في ذلك الوقت يستعدون لطرد العرب على نطاق واسع من النقب.‏
كان عرب “أبو يحيى” يزودون يعقوب ورفاقه الصهاينة بالمياه العذبة، وكانوا في كثير من الأحيان يحرسون ممتلكات الكيبوتس عندما يكون الرجال بعيدين عن العمل. كان هناك تفاهم بين قادة “أبو يحيى” و”كيبوتس حتسريم” على السماح للقرويين بالبقاء بمجرد سيطرة إسرائيل على النقب. وبدلاً من ذلك، عندما اندلعت الحرب، انقلب الكيبوتسيّون من حتسريم على جيرانهم العرب، وقتلوهم وطردوا الناجين من منازلهم إلى الأبد.‏
‏وانتهى المطاف بمعظم الناجين بالعيش في غزة.‏
‏تم تسجيل الذبح والاستئصال المادي لقرية “أبو يحيى”، وبلدة بئر السبع، و245 بلدة وقرية عربية أخرى في النقب على يد المستوطنين والجنود الإسرائيليين في التاريخ باسم ‏‏النكبة‏‏، أو “الكارثة”. وعندما يتحدث الفلسطينيون عن ‏‏النكبة‏‏، فإنهم لا يتطرقون فقط إلى أحداث العام 1948، بل إلى كل ما حدث منذ ذلك الحين باسم استدامة الصهيونية وتوسعها والدفاع عنها بعد العام 1948 التي تشكل إسرائيل الحديثة. ولا يتحدث الإسرائيليون عن ‏نكبة‏‏، بل يشيرون إلى أحداث العام 1948 على أنها “حرب الاستقلال” الخاصة بهم.‏
وكما لاحظ أحد الباحثين المعاصرين حول ‏‏هذا الموضوع، فإن “الصمت على ‏‏النكبة‏‏ ‏‏هو أيضاً جزء من الحياة اليومية في إسرائيل”.‏
بعد تأسيس دولة إسرائيل اليهودية في العام 1948، اتصلت مجموعة من المستوطنين اليهود برئيس الوزراء، ديفيد بن غوريون، وطلبوا السماح للرجال من مستوطناتهم بالخدمة في الجيش كمجموعة. وكانت النتيجة إنشاء “برنامج ناحال”، الذي جمع بين الخدمة العسكرية والعمل الزراعي. وستشكل قوات ناحال حامية، والتي سيتم تحويلها بعد ذلك إلى كيبوتس، والتي ستكون بمثابة خط الدفاع الأول ضد أي هجوم عربي مستقبلي على إسرائيل. في العام 1951، أقيمت أول مستوطنات ناحال، “نحلايم مول عزة”، على الحدود مع قطاع غزة. وتبع ذلك المزيد، حيث سعى مشروع ناحال إلى تطويق غزة بهذه المستوطنات الحصينة. وفي العام 1953، تحولت “نحلايم مول عزة” من موقع عسكري إلى كيبوتس مدني، وتم تغيير اسمها إلى “ناحال عوز”.‏
بين أحد أوائل المستوطنين في ناحال عوز كان رجل يدعى روي روتنبرغ. في سن 13 عاماً، خدم “صبي رسول” خلال حرب الاستقلال في العام 1948. وعندما بلغ عمره 18 عاماً، في العام 1953، تم تجنيده في جيش الدفاع الإسرائيلي، ثم ترقى ليتولى موضع مسؤوليته الأولى. كانت وظيفته الأولى كضابط هو العمل كضابط أمن لناحال عوز. كان متزوجاً، وفي العام 1956 كان الأب الفخور لابن رضيع. وفي 18 نيسان (أبريل) 1956، تعرض روي لكمين نصبه العرب، الذين قتلوه وأخذوا جثته إلى غزة. وأعيدت جثته بعد تدخل الأمم المتحدة، ودفن في اليوم التالي، في 19 نيسان (أبريل). وأثارت وفاة روي غضب الأمة الإسرائيلية، وتجمع الآلاف لحضور مراسم جنازته.‏
‏وكان موشيه ديان، رئيس هيئة الأركان الإسرائيلية، حاضراً، وألقى في الجنازة كلمة تأبين دخلت التاريخ الإسرائيلي كواحدة من الخطب الحاسمة للأمة. بدأ ديان، وصوته يتردد فوق حشد المشيعين: “في وقت مبكر من صباح أمس قتل روي. أبهره هدوء الصباح الربيعي ولم ير أولئك الذين ينتظرونه في كمين، على حافة الثلم”.‏
“دعونا لا نلق اللوم على القتلة اليوم. لماذا يجب أن نلوم كراهيتهم الشديدة لنا؟ إنهم يعيشون منذ ثماني سنوات في مخيمات اللاجئين في غزة، وأمام أعينهم نحول الأراضي والقرى التي سكنوا فيها هم وآباؤهم إلى ممتلكات لنا”.‏
“إنه ليس بين العرب في غزة، ولكن في وسطنا نحن يجب أن نبحث عن دم روي. كيف أغمضنا أعيننا ورفضنا أن نحدق مباشرة في مصيرنا، وأن نرى، بكل وحشيته، مصير جيلنا؟ هل نسينا أن هذه المجموعة من الشباب الذين يسكنون في ناحال عوز تحمل على أكتافها بوابات غزة الثقيلة؟‏”.
‏”وراء ثلم الحدود، ثمة بحر متعاظم من الكراهية والرغبة في الانتقام، في انتظار اليوم الذي يبلي فيه الصمت طريقنا، اليوم الذي سنصغي فيه إلى سفراء النفاق الحاقد الذين يدعوننا إلى إلقاء أسلحتنا”.‏
“دم روي يصرخ بنا، ولنا فقط، من جسده الممزق. على الرغم من أننا أقسمنا ألف مرة أن دمنا لن يسيل عبثاً، فإننا بالأمس مرة أخرى جُرِّبنا، واستمعنا، وآمنا”.‏
‏”سوف نراجع حساباتنا مع أنفسنا اليوم؛ نحن جيل يستوطن الأرض ومن دون الخوذة الفولاذية وفوهة المدفع، لن نتمكن من زرع شجرة وبناء منزل. دعونا لا نرتدع عن رؤية الكراهية التي تلهب وتملأ حياة مئات الآلاف من العرب الذين يعيشون حولنا. دعونا لا ندِر أعيننا لئلا تضعف أذرعنا”.‏
“هذا هو مصير جيلنا. هذا هو خيار حياتنا -أن نكون مستعدين ومسلحين وأقوياء ومصممين، لئلا يُطاح بالسيف من قبضتنا وتقطّع حياتنا”.‏
‏”الشاب روي الذي غادر تل أبيب ليبني منزله على بوابات غزة ليكون جداراً لنا أعماه النور في قلبه ولم ير وميض السيف. كان التوق إلى السلام يصم أذنيه ولم يسمع صوت القتل الذي ينتظر في الكمين. أثقلت بوابات غزة كتفيه وتغلبت عليه”.‏
يتميز الخطاب باعترافه الصريح بكراهية الفلسطينيين المسجونين في غزة لإسرائيل، فضلاً عن ذكر مصدر كراهيتهم، وتفهم شرعية المشاعر الفلسطينية.‏
‏لكنه أيضاً لا يعتذر عما يعتبره عدالة القضية الإسرائيلية، بغض النظر عن شرعية القضية الفلسطينية. قال ديان إنه لا يمكن استيطان إسرائيل من دون “الخوذة الفولاذية وفوهة المدفع”. وقال إن الحرب كانت “خيار الحياة” بالنسبة لإسرائيل، وعلى هذا النحو حكم على إسرائيل بحياة الاجتهاد العسكري، “لئلاً يطاح بالسيف من قبضتنا وتقطع حياتنا”.‏
بينما يفكر الناس في العنف الذي وقع في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، عندما خرج المئات من مقاتلي “حماس” المدججين بالسلاح من غزة وهبطوا على المواقع العسكرية والكيبوتسات التي تحيط بغزة، يجب ألا ينسوا أبداً أصول هذه المنشآت والغرض منها -حرفياً وضع سكان غزة في ما هو في الواقع معسكر اعتقال في الهواء الطلق. والعواطف التي نتجت عن ذلك بين السكان العرب المسجونين هناك. الإسرائيليون الذين عاشوا وعملوا وخدموا في هذه المعسكرات حملوا “أبواب غزة الثقيلة” على أكتافهم، وعملوا تحت “الكراهية المشتعلة” لشعب أجبر على العيش في مخيمات اللاجئين، بينما حول المستوطنون في الكيبوتسات المحيطة أمام أعينهم “الأراضي والقرى التي سكنوا فيها هم وآباؤهم” إلى وطن يهودي إسرائيلي.‏
هؤلاء الإسرائيليون جميعا أمسكوا بسيف الصهيونية بقوة في أيديهم. لا يمكن اعتبار أي من البالغين الذين عاشوا وعملوا في هذه المعسكرات بريئاً -لقد كانوا جزءاً من نظام الصهيونية- التي يتطلب وجودها نفسه واستمرارها السجن الوحشي والإخضاع لملايين الفلسطينيين الذين سرقت منازلهم منهم قبل 75 عاماً. لقد عاش هؤلاء “قدرَهم”، كما أسماه موشيه ديان، بكل وحشيته المتأصلة. كانت “بوابات غزة الثقيلة” هي مصير جيلهم، حتى أولئك الذين، مثل روي روتنبرغ من قبلهم، أثقلت البوابات أكتافهم وتغلبت عليها.‏
لا تراجع أبداً‏
‏كان هناك وقت كنت أعتبر فيه نفسي صديقاً لإسرائيل. كنت قد شاركت في حملة خلال عملية “عاصفة الصحراء” لمنع إطلاق صواريخ (سكود) العراقية على إسرائيل، ومن العام 1994 حتى العام 1998، سافرت إلى إسرائيل بكثافة، حيث عملت مع منظمة الاستخبارات التابعة لجيش الدفاع الإسرائيلي، “أمان”، للتأكد من أن العراق لن يكون قادراً مرة أخرى أبداً على تهديد إسرائيل بأي من صواريخ “سكود” التي تحمل متفجرات تقليدية شديدة الانفجار، أو الرؤوس الحربية الكيميائية أو البيولوجية أو النووية. وقدمت إحاطات للجنرالات والدبلوماسيين والسياسيين الإسرائيليين.‏
عملت لساعات طويلة جنباً إلى جنب مع مترجمي التصوير الفوتوغرافي الإسرائيليين، وجامعي استخبارات الإشارات، ومحللي الاستخبارات التقنية، وضباط قضايا الاستخبارات البشرية، بينما كنا نتأكد من عدم ترك أي حجر من دون أن يُقلب عندما يتعلق الأمر بالتأكد من أن تكون جميع قدرات أسلحة الدمار الشامل العراقية محسوباً حسابها بشكل كامل ويمكن التحقق منها. وقد أدهشتني أخلاقيات العمل المذهلة والذكاء الفطري لنظرائي الإسرائيليين. كما أعجبت أيضاً بنزاهتهم، لأنهم أوفوا بوعدهم بالالتزام بالتفويض الذي حدده مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة عندما يتعلق الأمر بالعمل الذي كنت أقوم به أنا وزملائي المفتشين من “اللجنة الخاصة للأمم المتحدة” (UNSCOM) في العراق.‏
بحلول الوقت الذي غادرت فيه “اللجنة الخاصة للأمم المتحدة”، في آب (أغسطس) 1998، كنت أعتبر نفسي صديقاً حقيقياً لإسرائيل (كان هناك جانب سلبي لهذه العلاقة -كان مكتب التحقيقات الفيدرالي يحقق معي بسبب انتهاكات مزعومة لقانون التجسس، وهو تحقيق لم ينته إلا بعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001، عندما تم، بعد مقابلة بيني وبين ثلاثة من عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي، إغلاق التحقيق).‏
يجب أن أعترف بأكثر من القليل من التناقض فيما يتعلق بنشأة إسرائيل -لم أكن من المعجبين بالفطرة. كان أول ما أتذكره عن إسرائيل هو حرب “يوم الغفران”، في تشرين الأول (أكتوبر) 1973، وكنت مفتوناً بالتقارير التي شاهدتها على شاشة التلفاز. وفي وقت لاحق، في العام 1976، أسرتني بالمقدار نفسه الجرأة والبطولة اللتان كانتا وراء عملية الإنقاذ في عنتيبي. لكن هذا الافتتان في الطفولة تلاشى عندما التحقت بالجامعة.
بين زميل سكن أميركي إسرائيلي كان قد أنهى لتوه خدمته في جيش الدفاع الإسرائيلي (كنت قد أنهيت للتو خدمتي في الجيش الأميركي، وكنت مسجلاً في برنامج بعثات لسلاح مشاة البحرية، ولم أستطع فهم كيف يخدم مواطن أميركي -أو حتى كيف يمكنه الخدمة في القوات المسلحة لدولة أخرى)، ومنظمة نشطة للغاية في الحرم الجامعي، “منظمة هيليل” (الطالب اليهودي)، أصبحت مستاءً من عدم التسامح المطلق الذي كان موجوداً بين العديد من اليهود الأميركيين تجاه فلسطين والعالم العربي بشكل عام.‏
تأثرت بشدة بالبروفيسور جون جوزيف، المؤرخ الآشوري-الأميركي لدراسات الشرق الأوسط. ولد البروفيسور جوزيف، وهو ابن لاجئين من الإبادة الجماعية الآشورية في بلاد فارس ما قبل إيران، ونشأ في بغداد. ويتناقض الانفتاح الذهني الذي درّس به مساقات حول العلاقات العربية الإسرائيلية بشكل صارخ مع نهج “طريقي أو الطريق السريع”، أنا أو لا شيء الذي اتبعته “هيليل”. وفي إحدى المناسبات، في ربيع العام 1983، رعت “هيلل” زيارة وفد من الجنود الإسرائيليين إلى الحرم الجامعي، حيث ألقوا كلمات حول الغزو والاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان. كنت ملتحقاً بدورة قادة فصيلة مشاة البحرية، وكان من المقرر أن يتم تكليفي بالمهمات بعد التخرج في أيار (مايو) 1984.
تصدرت مواجهة بين مشاة البحرية الأميركية وثلاث دبابات تابعة لجيش الدفاع الإسرائيلي في شباط (فبراير) 1983 عناوين الصحف في جميع أنحاء العالم. حاولت الدبابات، بقيادة مقدم إسرائيلي، المرور عبر موقع مشاة البحرية. ووقف جونسون، الضابط المسؤول عن وحدة مشاة البحرية المكلفة بمنع الإسرائيليين من دخول بيروت، أمام الدبابات، وقال لضابط جيش الدفاع الإسرائيلي إنه لن يسمح لهم بالمرور. وعندما هددته الدبابات بدهسه، سحب الكابتن جونسون مسدسه، وقفز على الدبابة الإسرائيلية القائدة، وأخبر المقدم أنهم سيعبرون فقط فوق جثته. وتراجع الإسرائيليون.‏
‏أدت المواجهة خارج بيروت إلى توترات بين الولايات المتحدة وإسرائيل، حيث استدعت وزارة الخارجية القائم بالأعمال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، للاحتجاج على الاستفزاز الإسرائيلي. وتلت ذلك مشاعر سيئة، حيث نشر الإسرائيليون شائعات بأن أنفاس الكابتن جونسون كانت تفوح منها رائحة الكحول.‏
هذه الإشاعة كررها أحد الجنود الإسرائيليين السفراء في حديث حضرته في الحرم الجامعي. وقد شعرت بالغضب ونهضت على قدمي لتحدي المتكلم. وبطريقة غير دبلوماسية كثيراً، ذكرت الجندي الإسرائيلي بأنه يقف على الأراضي الأميركية، بحضور أحد مشاة البحرية الأميركية، وأنني سأكون ملعوناً إذا سمحت له بتشويه سمعة ضابط في سلاح مشاة البحرية في حضوري. وبعد أن استشعروا العنف المتأصل في كلماتي (كانت لي سمعة مسبقاً في الحرم الجامعي بسبب مهاجمتي زميلاً طالباً تمنى لو أن جون هينكلي، الذي كان يمكن أن يكون قاتل الرئيس رونالد ريغان، كان رامياً أفضل)، تدخل منظمو “هيليل”، وأنزلوا الجندي الإسرائيلي عن المسرح وإلى خارج الحرم الجامعي.‏
جاء تفاعلي التالي مع إسرائيل، بشكل غير مباشر، خلال عملية “عاصفة الصحراء”. في حين كانت مهمة القوات الأميركية هي تحرير الكويت من الجيش العراقي، هدد إطلاق العراقيين صواريخ “سكود” المعدلة على إسرائيل بإدخال إسرائيل في الصراع، وهو عمل كان من شأنه أن يتسبب في تفتيت تحالف الدول، الذي يتضمن العديد من الدول العربية التي سترفض القتال إلى الجانب نفسه مع إسرائيل، الذي كان الرئيس جورج بوش الأب قد جمعه معاً بعناية شديدة. وأصبح وقف إطلاق صواريخ “سكود” العراقية على رأس أولويات الحرب، وبصفتي الخبير المقيم في صواريخ “سكود” في هيئة أركان الجنرال نورمان شوارزكوف، أصبحت منخرطاً بشكل كبير في هذا الجهد. (كما ذكَّرتُ أحد أفراد الجمهور المعادين علناً خلال عرض تقديمي في العام 2007 أمام منظمة يهودية أميركية كبرى، فإنني كنت أضع مؤخرتي على المحك من أجل إسرائيل عندما كان هو ويهود أميركيون آخرون يشترون التذاكر للهروب من “الأرض المقدسة”).‏
بعد الحرب، جندتني “اللجنة الخاصة للأمم المتحدة” للمساعدة في إنشاء قدرة استخباراتية مستقلة لدعم بعثة الأمم المتحدة في العراق. وفي العام 1994، اقترحتُ أن تفتح اللجنة الخاصة قناة سرية مع إسرائيل للتنسيق الوثيق بشأن المسائل الاستخباراتية المتعلقة بنزع سلاح العراق. وتمت الموافقة على اقتراحي، وساعدت في قيادة أول وفد للجنة الخاصة تم إرساله إلى إسرائيل، حيث التقينا بمدير “أمان” ورئيس قسم البحث والتحليل لمناقشة نطاق وحجم التعاون الاستخباراتي بين اللجنة الخاصة للأمم المتحدة وإسرائيل.‏ (يُتبع)

*وليام سكوت ريتر الابن Scott Ritter: ضابط استخبارات سابق في سلاح مشاة البحرية الأميركية. خدم في الاتحاد السوفياتي السابق لتنفيذ معاهدات الحد من الأسلحة، وفي الخليج العربي/ الفارسي خلال عملية “عاصفة الصحراء” وعمل عضوا في اللجنة الخاصة للأمم المتحدة التي تشرف على نزع ‏‏أسلحة الدمار الشامل‏‏ في ‏‏العراق‏‏ من العام 1991 إلى العام 1998 واستقال منها احتجاجاً، وأصبح فيما بعد أحد منتقدي السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وقبل الغزو الأميركي للعراق في آذار (مارس) 2003، صرح ريتر بأن العراق لا يمتلك أسلحة دمار شامل. في السنوات الأخيرة، كان مساهما منتظما في وسائل الإعلام الحكومية الروسية “روسيا اليوم” ‏‏RT‏‏ و”سبوتنِك” ‏‏Sputnik‏‏‏. واعتبارا من آذار (مارس) 2024، أصبح عضوا في ‏‏”محترفي الاستخبارات المخضرمين من أجل تحكيم العقل”‏‏.‏ أحدث كتاب له هو “‏‏نزع السلاح في زمن البيريسترويكا” Disarmament in the Time of Perestroika‏، منشورات (مطبعة كلاريتي).‏
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Why I no longer stand with Israel, and never will again
**ملاحظة المترجم/ المحرر:
يستخدم سكوت ريتر في هذا المقال وصف “الإرهاب” في الإشارة إلى حركة “حماس” الفلسطينية. لكنه أعرب عن موقف مختلف تجاه الحركة لا يعكس هذا الرأي في أماكن أخرى. في تعليقاته على الحرب الأخيرة، أشاد بدورها بين الفلسطينيين، مشيراً إلى أنها اكتسبت دعماً كبيراً كمدافع عنهم ضد الأعمال العسكرية الإسرائيلية، خاصة بعد النزاعات الكبرى. وفي مقابلة أُجريت معه في كانون الأول (ديسمبر) 2023، أوضح ريتر موقفه بخصوص “حماس” وأعرب عن دعمه لها بوصفها جماعة تقاوم ما وصفه بالاضطهاد الإسرائيلي. وفي مقابلة أخرى في شباط (فبراير) 2024، قال إن “حماس” حققت “انتصارات” سياسية وعسكرية على القوات الإسرائيلية، مما يوحي برؤيته لدورها كقوة مقاومة.

Related posts

ماذا لو فاز ترمب … وماذا لو فازت هاريس؟* هاني المصري

الأمم المتحدة…لنظام عالمي جديد ؟* د فوزي علي السمهوري

ما الخطر الذي يخشاه الأردنيون؟* د. منذر الحوارات