الانقلاب الذي نفذته شركات التكنولوجيا العملاقة

ماريتجي شاك* – (إندبندنت عربية)

في زمن أصبحت فيه تقنيات المعلوماتية والاتصالات المتطورة والذكاء الاصطناعي في صلب نسيج حياة الناس، تتصاعد باطراد قوة الشركات التي تصنع تلك التقنيات على حساب الدولة ومؤسساتها وتمثيلها للشعوب، بل صارت ممسكة بكثير من الخيوط الأساسية للسلطة. ويبدو الأمر وكأنه انقلاب في علاقة الديمقراطيات والشركات صار لزاماً على الأولى أن توقفه وتسترد سلطاتها الممنوحة لها من الشعوب.

في الثلاثين من آب (أغسطس)، حظرت المحكمة البرازيلية العليا منصة “إكس” للتواصل الاجتماعي المعروفة سابقاً باسم “تويتر” من شبكة الإنترنت في بلادهاز، وجاء الحظر تتويجا لأشهر من الصراع بين إيلون ماسك؛ مالك تلك المنصة وأغنى رجل في العالم، وألكسندر دي مورييس؛ أحد قضاة المحكمة البرازيلية. وأنيطت بمورييس مهمة التحقيق في دور المعلومات المضللة على الإنترنت في محاولات إبقاء الرئيس البرازيلي السابق، جايير بولسونارو، في السلطة على الرغم من خسارته الانتخابات. وكجزء من تلك المهام، أمر مورييس منصة “إكس” بأن تغلق مئات الحسابات التي نشرت معلومات مضللة. وفي ردها على ذلك، دانت المنصة المحكمة بممارسة الرقابة، وسحب ماسك ممثلي “إكس” الذين ينص القانون على ضرورة وجودهم لتشغيل المنصة في البرازيل. وأوصلت تلك الخطوة القاضي في خاتمة المطاف إلى منع البرازيليين من الدخول إلى المنصة بأكملها.
ولم يأخذ ماسك القرار القضائي برحابة صدر، ووصف مورييس بـ”الطاغية الشرير”. ولم يقتصر غضب ماسك على الإدانات القاسية. وفق تقرير نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” انخرط ماسك بنشاط في إجراءات هدفت إلى الالتفاف على القرار القضائي. وفي خطوة أولى، شجع ماسك البرازيليين على استعمال “الشبكات الافتراضية الخاصة” Virtual Private Networks للإفلات من الحظر، ثم عمدت شبكة الأقمار الاصطناعية “ستارلينك” التي يملكها ماسك والتي توفر خدمة الاتصال بالإنترنت مباشرة من الفضاء، إلى مواصلة توفير الوصول إلى منصة “إكس” للبرازيليين. وأخيراً، عمدت “إكس” إلى إعادة توجيه تدفقاتها عبر الإنترنت إلى خوادم جديدة، مما يتيح لها الالتفاف على كل أنواع ضوابط الاتصالات في البرازيل.
وبتأثير من ضغط متصاعد مارسته السلطات في بلد يضم عدداً وازناً من مستخدمي منصة “إكس” (وكذلك مصادرتها بعض أصولها المادية)، وافقت الشركة في نهاية الأمر على غلق الحسابات المتورطة في نشر المعلومات المضللة، وكذلك تسديد الغرامات المسجلة ضدها. وفي المقابل، تجسد الجلافة التي تحدى بها عملاق التكنولوجيا قرار الدولة بصورة ملموسة إحدى الوقائع المخيفة والواضحة: أن الحكومات الديمقراطية فقدت صدارتها في العالم الرقمي. وبدلاً من ذلك، باتت الشركات ومديروها التنفيذيون يمسكون بزمام الأمور على نحو متعاظم. وجاء ذلك الانتقال في السلطة نتيجة اجتماع عدد من العوامل، تشمل تزايد الاعتماد الاجتماعي بصورة منهجية على شركات التكنولوجيا، والمساحات القانونية الرمادية التي تعمل ضمنها تلك الشركات، والخصائص المتفردة للتقنيات الصاعدة، وبخاصة الذكاء الاصطناعي. وجاء تميز الشركات نتيجة لحرمان المؤسسات العامة من المعرفة التكنولوجية، بالإضافة إلى صدقيتها ودرجة تفويضها وتمثيلها. وقد سمحت أجيال مختلفة من السياسيين المنتمين إلى أحزاب مختلفة بحدوث ذلك.
إذا أرادت الديمقراطية البقاء والاستمرار، فإنها يجب أن تخوض صراعا ضد هذا الانقلاب. يجب عليها تعزيز التكنولوجيا المهتمة بالمصلحة العامة بحيث تشكل قوة موازية للشركات العملاقة. كما تحتاج أيضاً إلى إعادة بناء خبراتها التكنولوجية الخاصة. والأهم من ذلك كله، يجب على الدول العمل بفاعلية على إرساء منظومات تشريعية وتنظيمية مبتكرة كي تستطيع وضع حد للشركات التكنولوجية (وكذلك الاستخدام الحكومي للتكنولوجيا) كي تتصرف بصورة مسؤولة. هناك حاجة لأن تتصرف الحكومات على هذا النحو بهدف الحفاظ على مجتمعات رقمية منفتحة، وحرة وحية، بالاستناد إلى حكم القانون.
وتصلح الحالة البرازيلية كتنبيه إلى أن الوقت لم يفت بعد، وأن السلطات الديمقراطية تستطيع استعادة سيادتها وتأكيد نفسها بفعالية في التكنولوجيا إذا اختارت أن تفعل ذلك.
كل هذه القوة
بشكل متواصل، تنتج الشركات ابتكارات تقنية جديدة، لكن السياسيين فشلوا باستمرار في مواكبة هذا الإيقاع. في الولايات المتحدة تم إقرار تشريعين أساسيين قبل عقود؛ “قانون اللياقة في الاتصالات” خلال العام 1996، و”قانون حقوق النسخ للألفية الرقمية” خلال العام 1998؛ أي قبل أن يفكر ستيف جوبرز بالـ”آيفون” بزمن طويل. وخلال الأعوام التي تلت القانونين، انتقلت الشركات التكنولوجية من مرحلة تطوير المنتجات إلى تشغيل أنظمة كاملة باتت تؤثر في مجالات لم تهمين عليها سوى الدول سابقاً. ومن الأمثلة على تلك المجالات البنية التحتية الرقمية وضمانات أمنها. ومع انفلات أدواتها وخدماتها القوية في عالم يفتقر إلى ضوابط ملائمة، أضحت الشركات التكنولوجية هي المهيمنة بحكم الأمر الواقع على تقنيات لها وزن جيوسياسي هائل، بما في ذلك أنظمة التعرف على الوجوه والاتصال بالإنترنت عبر الأقمار الاصطناعية ومجموعة من المجالات المفصلية في جمع المعلومات. وتملك شركة “مايكروسوفت” العملاقة “مركز استخبارات المخاطر” Threat Intelligence Center الذي يتولى رصد الأخطار وكأنه يقارع “وكالة الأمن القومي” الأميركية. وتدير شركات العملات المشفرة أموالها وكأنها “بنك الاحتياط الفيدرالي”، وتتفوق محفظة الطاقة النظيفة لدى “أمازون” على ما تحوزه دول عدة، على الرغم من انخراط هذه الشركة في بناء مراكز بيانات يسودها النهم الشديد إلى الطاقة.
ومع تنامي سلطتها، أضحى مديروها التنفيذيون شخصيات تاريخية. وربما يكون ماسك المثل الأوضح على ذلك إذا أخذت بعين الاعتبار هجماته على قادة العالم وانخراطه في السياسة. لكن ثمة مديرين تنفيذيين آخرين ممن حازوا موقعاً بارزاً وضخماً في الحياة العامة يتجاوز بكثير مواقعهم الإدارية. وبصورة روتينية يستدعى مارك زوكربيرغ؛ المدير التنفيذي لشركة “ميتا” (مالكة “فيسبوك” و”إنستغرام” و”واتساب” وغيرها) للإدلاء بشهادته في الكونغرس، ويحاجج دوماً بأن أعمال شركاته تشكل محوراً أساسياً في التنافس بين الولايات المتحدة والصين. ويتكرر ظهور المديرين التنفيذيين لشركات “آلفابيت” (مالكة “غوغل”) و”أمازون” و”مايكروسوفت” في واشنطن. وخلال إحدى جلسات الاستماع، طرح جون كينيدي، وهو سيناتور جمهوري، سؤالاً على المدير التنفيذي لشركة “أوبن أي آي”؛ صانعة روبوت الدردشة الشهير “شات جي بي تي”، سام آلتمان عن مدى إمكانية أن يدير وكالة تشريعية أميركية لقوانين الذكاء الاصطناعي. لقد تخلى السياسيون عن مسؤولياتهم لمصلحة قادة التكنولوجيا غير المنتخبين وغير الموثوقين.
كنتيجة لهذه المعطيات، تمارس شركات التكنولوجيا كلها، كبيرها وصغيرها، سلطة غير مسبوقة تاريخياً تطال حتى البنية التحتية الأشد حساسية ومحورية، حيث تهيمن مثلاً على كابلات المعلومات الممتدة تحت مياه بحار العالم ومحيطاته، وتعمل كنظام نقل لمعظم حركة الإنترنت في العالم. وينتقل نحو 99 في المائة من بيانات العالم عبر تلك الكوابل، بما في ذلك 10 تريليونات دولار يومياً من التبادلات المالية والمعلومات الحكومية فائقة الحساسية. فمن دون تلك الكوابل، يتعذر عمل كل أنواع النشاطات الأساسية للعالم. ولذلك، يجب أن تمسك بمقاليد حوكمة تلك الشركات كيانات حكومية متعددة الأطراف تتولى صيانة أمن تلك الكوابل أيضاً. ولكن، بدلاً من حصول ذلك تنهض الشركات ببناء واستعمال وصيانة كوابل الإنترنت العالمية، بينما يقف السياسيون وأصحاب القرار في موقف المتفرج.
انخرطت شركات التكنولوجيا بصورة عميقة في التركيبات الإدارية البيروقراطية للدول، مما جعل الحكومات مكشوفة أمامها بطرق يسيرة، لكنها مؤثرة بصورة جدية أيضاً. على سبيل المثال، في العام 2013 وظفت السلطات الهولندية منظومة من الخوارزميات المتخصصة بتقييم الأخطار بهدف كشف المتلاعبين بين صفوف دافعي الضرائب، وشكل الأمر كارثة. فبسبب حدوث خطأ في التقييمات، بما في ذلك تلك التي شملت ملامح عرقية، فقدت عشرات آلاف العائلات منازلها ووظائفها وحقها في رعاية أطفالها. ويرجع ذلك إلى أن أداة التقييم لم تكن شفافة وتعتمد على التعلم الذاتي غير البشري، إضافة إلى كونها صارمة وتمييزية. وفي النتيجة، أوصل هذا السقوط السياسي إلى استقالة الحكومة ودمر ثقة الشعب بالدولة، وفي المقابل، أفلتت الشركة التي صنعت تلك البرمجيات المغلوطة من المشكلة من دون أي ضرر نسبياً. مع ذلك، يستمر استخدام خوارزميات مماثلة تتوافر في أسواق العالم على الرغم من تضمنها إمكانية كامنة للتسبب بأذى ربما يكون أعمق مما حدث في هولندا.
أسلحة الحرب
تمتد سطوة شركات التكنولوجيا إلى نشاط محوري آخر في الدول، يتمثل في الحرب. وقد استعملت تطبيقات الذكاء الاصطناعي بصورة إشكالية للتعرف على أعداد مكثفة من الأهداف في غزة. واستعملت أوكرانيا شركات الأقمار الاصطناعية لمراقبة الاتصالات وجمع المعلومات الاستخباراتية. وأدى هذا الاعتماد إلى إعطاء شركات التكنولوجيا سيطرة على طريقة إدارة الدول لشؤونها الاجتماعية. مثلاً، تعتمد أوكرانيا على إحدى هذه الشركات، “ستارلينك”، مما شجع ماسك على التدخل في مسار الصراع من خلال دعوته إلى مفاوضات سلام بطريقة تنسجم مع أهداف الكرملين، مما أثار توتراً في كييف والدول التي تساندها.
وفي مناسبات أخرى، تحولت شركات التكنولوجيا إلى أطراف مباشرة في الصراعات. وتستمر المواجهات في الفضاء السيبراني، وبالتالي يتزايد اعتماد الدول على الشركات الخاصة في الشؤون الدفاعية المتصلة بتلك المواجهات. ولنأخذ ما حدث في العام 2021 حينما أصيبت الشبكات الرقمية التي تدير عمل خط لنقل النفط تابع لشركة “كولونيال بايبلاين” بـ”هجمات الفدية”. وتعد تلك الشركة بين أضخم مقدمي الطاقة لمعظم أرجاء الساحل الشرقي للولايات المتحدة. وأدت تلك الضربة السيبرانية إلى وقف تدفق النفط عبر معظم منطقة الساحل. وأعلنت ولايات أميركية عدة حالة الطوارئ بينما تكونت طوابير طويلة أمام محطات الوقود، وأعيد توجيه رحلات جوية عدة. وفي لقاء مع مديري شركات التكنولوجيا عقب ذلك الهجوم، وافق الرئيس جو بايدن على “أن الحقيقة تتمثل في امتلاك القطاع الخاص وتشغيله لمعظم بنيتنا التحتية الحساسة والمحورية”. وأضاف: “لا تستطيع الحكومة الفيدرالية منفردة أن تتصدى لهذا التحدي”. وشكل ذلك اعترافاً صريحاً ونادراً من الحكومة الأميركية بأنها فقدت السلطة في ما يتعلق بحماية المجال الرقمي للبلاد.
ولكن، على الرغم من تعاظم الهجمات السيبرانية المدمرة، يرى البيت الأبيض أنها لم تستوف بعد شروط تصنيفها بالحرب، وكذلك تغيب القوانين الدولية الواضحة عما يجب حظره من الهجمات السيبرانية.
بصورة نموذجية لا يعد التجسس بواسطة الوسائل الرقمية انتهاكاً لسيادة الدولة، وبالتالي يفلت من العقاب. وخلال العام 2022، أفاد بول ناكاسون، الذي ترأس حينها قيادة القوة السيبرانية الأميركية، بأن الولايات المتحدة استعملت قدرات سيبرانية هجومية لضرب أهداف روسية، لكنها لم تعتبر مثل تلك الهجمات اشتباكاً مباشراً مع روسيا. وفي المقابل، رسمت واشنطن خطاً أحمر عابراً لحدود دول حلف الناتو كحد ملموس مباشر لقتال القوات الروسية.
في خضم كل ذلك الغموض القانوني والسياسي، أصبحت الشركات أكثر إقبالاً على أداء دور المرتزقة. وأصبحت شركات برمجيات التجسس قابلة للاستئجار وتبيع أدوات استخباراتية متطورة للقيادات الدكتاتورية والديمقراطية على حد سواء. كما تؤدي الشركات دوراً محورياً في تشابكات حساسة على الإنترنت، إذ يستعمل تطبيق الخدمات الشبكية في شركة “أمازون” خوارزميات تعليم الآلات بهدف ملاحقة الأخطار المتأتية من أطراف ترعاها الدول. وكذلك تعمد “مجموعة تحليل المخاطر” التابعة لمحرك البحث، “غوغل”، إلى إخراج قنوات على “يوتيوب” بهدف تنفيذ عمليات تأثير منسقة. ويؤدي هذا النوع من العمليات إلى انتقال مجال الصراع إلى أيدي أطراف من غير الدول لديها حوافز مختلفة بصورة جذرية عن الحكومات، وكذلك الحال بالنسبة لمستويات الموثوقية.
“ماتريكس” في كل الأمكنة
في معظم الأحيان، تتحرك الدول من موقع الضعف في المعلومات عندما يتعلق الأمر بالتكنولوجيا. ومع استثناءات قليلة، تفتقد الدول إلى سبل الوصول إلى المعلومات، وكذلك الحال بالنسبة للمهارات والخبرات اللازمة لفهم الخوارزميات والابتكارات الجديدة (ولنتجاوز الآن عن مسألة تنظيمها). ولأن المعرفة قوة، يحيل ذلك الضعف السياسيين وأصحاب القرار إلى موقع المفاوض الضعيف أمام شركات التكنولوجيا، مما يؤدي إلى مزيد من عمليات التعهيد.
في الوقت الراهن، ينظر إلى شركات مثل “بالانتير تكنولوجيز” Palantir Technologies باعتبارها موثوقة لإنجاز تحليلات حساسة ومحورية للبيانات الخاصة بشؤون الدفاع والرعاية الصحية ونقاط السيطرة على الحدود. وتتولى الشركات التكنولوجية تلك الأعمال على الرغم من أنها تفتقد القيادة الديمقراطية والصدقية والخبرة اللازمة لتلبية تلك المتطلبات. وفي مقابلة مع “نيويورك تايمز” في صيف في العام 2024، أفاد المدير التنفيذي لشركة “بالانتير” بأن “إنقاذ الأرواح وكذلك إزهاقها في بعض الأحيان هو أمر فيه إثارة كبيرة”، وكأن قرارات الحياة والموت هي لعبة كمبيوتر.
كما تعزز شركات التكنولوجيا قوتها أيضا بواسطة ما تحوزه من أموال، وتتمتع الشركات الأضخم بثراء استثنائي، وتلامس القيمة السوقية لشركة “مايكروسوفت” 3.2 تريليون دولار؛ أي ما يفوق الناتج المحلي الإجمالي الفرنسي، علماً بأن فرنسا تحتل المرتبة السابعة بين اقتصادات دول العالم، وبالتالي لا تواجه الشركات التكنولوجية الكبرى مشكلة في إنفاق ملايين الدولارات على مجموعات الضغط، اللوبيات، التي تساندها. وفي أغلب الأحيان، تجد مجموعات الضغط أنها تدفع أبواباً مشرعة أصلاً. وبسبب ضآلة الخبرة التقنية لدى المسؤولين الرسميين، يتمكن ممثلو الشركات بسهولة من قولبة أفكارهم والتأثير في قراراتهم. وعلى نحو مماثل، استعملت شركات التكنولوجيا أموالها في تأطير التفكير العام عالمياً المتعلق بصناعتها عبر الاستثمار في مراكز الأعمال الفكرية، والمؤتمرات والمؤسسات الأكاديمية.
ثمة تأطير فكري أحرزت شركات التكنولوجيا نجاحاً فائقاً في ترويجه يتمثل بمقولة “التنظيم التشريعي يخنق الابتكار”. وظهر ذلك، بحسب “فيسبوك”، عندما حاولت تلك الشركة في العام 2012 تبديد قناعة المشرعين الأوروبيين وثنيهم عن تنفيذ التوجيه التشريعي الأوروبي المتعلق بحماية البيانات. وهذه المقولة مغلوطة بمقدار كونها لا تخدم سوى نفسها، خصوصاً مع إمساك الشركات التكنولوجية الكبرى بالمفاصل الأساسية الكبرى، ودأبها على جعل حياة الشركات الصاعدة شديدة الصعوبة. وعلى الرغم من ذلك، تبقى هذه المقولة شائعة اليوم. وتتسم التشريعات التنظيمية بالدينامية والمرونة، وتتأقلم مع المتغيرات في الصناعات. وفي حالات كثيرة، أدت القيود الناظمة إلى تحفيز الابتكار بصورة فعلية. وعلى سبيل المثال، ابتكرت الشركات منتجات أكثر استدامة وتوافقاً مع البيئة بعد فرض قوانين أشد صرامة في حماية البيئة. وحتى لو أدت التشريعات التنظيمية إلى إبطاء الابتكار، فقد يستحق الأمر المحافظة على التوازن. على المستوى الفلسفي، ليس الابتكار أهم من دور القانون وحماية المستهلك وعدم التمييز، أو أي من القيم المركزية في الديمقراطية. وإذا امتلك الابتكار قدرة كامنة على تقليص الحقوق الأساسية أو تعارض مع قيم الجمهور الواسع، يكون للتشريع التنظيمي الحق كله في ترجيح كفته وسموها، ويجب أن يعترف السياسيون بهذه الحقيقة والعمل وفق مقتضياتها.
ولكن، حتى لو فعلوا ذلك، فإنهم سيصطدمون بمزيد من العوائق، حيث اكتسبت الشركات التكنولوجية قوة أكبر عبر رفضها شرح كيفية عمل منتجاتها، ونتيجة لذلك، ليس باستطاعة الأكاديميين إجراء بحوث مستقلة عن الآليات الداخلية للخوارزميات أو تطبيقات الذكاء الاصطناعي. وثمة انخراط للشركات التكنولوجيا في مسار الخداع المباشر أيضاً. عندما سعت “مايكروسوفت” إلى نيل الموافقة القانونية على إنشاء مركز للبيانات في ولاية أيوا في العام 2016، لجأت إلى تمريره تحت اسم مستعار هو “مشروع أوسميوم”. كما أصبح الدخول في مناقصات خلف ستار مجموعة من الشركات أمراً معتمداً كممارسة معيارية في صفوف شركات التكنولوجيا. ورفعت شركة “أوبر” تلك الممارسة من التمويه الضبابي إلى مستويات أعلى مع مبادرة “غراي بول”. وفي ذلك المشروع، وفق تقرير من “نيويورك تايمز”، استطاعت “أوبر” التعرف إلى مسؤولي إنفاذ القانون الذين يملكون سلطة قانونية لتقصي النطاقات التي يحظر على تلك الشركة العمل فيها. وفي خطوة تالية، رتبت الشركة الأمور بحيث إنه عندما يدخل أولئك المسؤولون تطبيق “أوبر”، فإنهم سيجدون صعوبة كبرى في تحديد مدى وجود تلك الشركة بصورة فعلية في المساحات المحظورة عليها أم لا. وبهذه الطريقة، استطاعت الشركة مواصلة العمل مع التملص من الاكتشاف. وباستثناء فرض غرامات متفرقة، لم تفعل الحكومات ما يكفي للسيطرة على تلك الممارسات والمطالبة بالشفافية وتحميل الشركات مسؤولياتها.
بالإضافة إلى ذلك، يعاق عمل المشرعين بصورة أساسية بسبب سرعة التطور التكنولوجي. وبصورة جزئية، تهربت الشركات من القانون عبر ابتكار التقنيات بسرعة تكفي لبقائها متقدمة عليه. وبعد ذلك، تستطيع الشركات الانخراط في سلوكات إشكالية من دون أن يساورها القلق بشأن رد فعل السياسات تجاهها. مثلاً، فتشت شركة “كلير فيو إيه آي” الفضاء السيبراني للإنترنت بأكمله بحثاً عن صور الوجوه قبل أن تلاحظها أي جهة حكومية. ودربت “النماذج اللغوية الكبرى” على مجمل النصوص الموجودة على الإنترنت قبل أن تتوصل الحكومات إلى التفكير في مساءلة الشركات الصانعة لتلك النماذج عن حماية البيانات وحقوق الملكية الفكرية، مقتنعة بأن القوانين التي تحمي تلك الحقوق سارية ومطبقة فعلياً. وحينما حصدت الشركات كميات كبرى من المعلومات ووضعتها خلف أبوابها المغلقة، فقدت المؤسسات العامة القدرة على الوصول إلى المعلومات، بالتالي خسرت صدقيتها وعملها كوكيل يمثل المصلحة العامة. ونجمت عن ذلك دائرة مغلقة مميتة نواتها أن تتفوق قوة الشركات الخاصة باستمرار على قدرة المؤسسات العامة على مساءلتها وتحميلها مسؤولية أفعالها.
لنعد ذلك ثانية
بصورة صادمة، تبدو الحكومات الديمقراطية غير مهتمة حتى الآن بالقوة المتعاظمة لشركات التكنولوجيا. كثيراً ما أطلق نشطاء وصحفيون إنذارات بشأن تلك الصناعة، لكن الإدارات الأميركية المتعاقبة تصرفت بتراخ متعمد حيال هذا القطاع، عاقدة الآمال على أن تسوي الأمور نفسها بنفسها بشأن كل مصادر القلق. وأبدى الاتحاد الأوروبي فاعلية أكبر، لكن حفنة صغيرة من قوانينه استهدفت إنهاء سطوة تلك الشركات. وتحتاج الديمقراطيات إلى رؤية واضحة عن كيفية التوصل إلى حوكمة تستوعب كل مناحي التكنولوجيا.
في مجتمع راكمت فيه شركات التكنولوجيا سلطتها في اتخاذ القرارات الحاسمة، يجب على الحكومة المبادرة إلى إجراءات أكثر تأثيراً. وتتمثل الأخبار الطيبة في أنه إذا عزمت الحكومات الديمقراطية على الانتقال إلى ذلك النوع من الأفعال، فستجد أمامها طرقاً كثيرة للمضي قدماً. ويشمل ذلك زيادة معرفة السياسيين وأصحاب القرار بآليات عمل المنتجات التقنية قبل الانتقال إلى إدارة شؤون العلاقة مع الشركات المنتجة لها. وكذلك تستطيع الحكومات البدء في تعديل الحمايات التي تحمي أسرار المنتجات كي تتلاءم مع عصر الخوارزميات. ويجب على الحكومات الديمقراطية أيضاً مطالبة الشركات بأن تتيح للباحثين سبل النفاذ إلى البيانات، وأن تصبح الأنظمة التكنولوجية المستخدمة تحت لواء الحكومات قابلة للوصول إليها عبر “قانون حرية المعلومات” مثلاً. وإذا فعلت الحكومات ذلك، فستتاح للجمهور فرصة تعلم آليات عمل المنظومات التكنولوجية، مما يسهل التوصل إلى نقاش تشريعي مستند إلى معلومات كافية. وفي المسار نفسه، يجب إلزام الشركات بمعايير أعلى من الشفافية حينما يتعلق الأمر بالمناقصات عن عقود الأراضي والطاقة المتعلقة بمراكز البيانات، أو أن تكشف الشركات عمن يمولها. وإذا عزفت شركة ما عن كشف جهات تمويلها، فستغدو غير مؤهلة للعمل في السوق المفتوحة.
بهدف الاستفادة من تلك الشفافية المستجدة عندما تتحقق، سيصبح بإمكان المشرعين مراكمة خبرات تكنولوجية داخل الحكومة. ومن شأن أولئك الخبراء أن يحدثوا توازناً مع الكلام المكرر الذي تردده أفواه ممثلي اللوبيات التكنولوجية الذين يسعون إلى إدخال طرق فهم المشرعين للتقنيات ضمن أطرهم الخاصة. مثلاً، قد تستعيد الولايات المتحدة تجربة “مكتب تقييم التقنيات” Office of Technology Assessment، وهو كيان تابع للكونغرس دأب في أوقات سابقة على مساعدة صناع القانون على فهم الاتصالات التي تجري عن بعد، والابتكارات في مجال الحوسبة. وقد عمل ذلك المكتب بكامل قوته بين العامين 1974 و1995. ويحتاج صناع السياسة إلى “مكتب تقييم التقنيات” أو ما يوازيه كي يستطيعوا عبور مياه حقبة تضم الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمومية والتكنولوجيا الحيوية.
وعلى مستوى أكثر جذرية، يجب على الحكومات الانتقال من التركيز على تمرير القوانين إلى التشديد على تطبيقها بصورة حاذقة. وتحتاج الحكومات إلى ربط القوانين بالمبادئ الأساسية للعدالة والمساواة وعدم التمييز وتحمل المسؤولية، مع الحرص في الوقت نفسه على تسريع إرساء آليات تنفيذ صلبة وملموسة، بحيث تستطيع الصمود في وجه الاختراق التكنولوجي التالي والآتي حتماً. في أحيان كثيرة، يأتي تصور التنفيذ في مرحلة تالية على التشريع، وبالتالي لا يتوافر تمويل كاف للكيانات التي تناط بها عمليات الإشراف. يجب على الحكومات إصلاح هذه المسألة عبر تكوين أدوات تنفيذ قوية. وعلى سبيل المثال، تستطيع الحكومات استعمال المشتريات كأداة للحث على تغيير سلوك الشركات. وعلى غرار ما يفعله كبار ممولي تكنولوجيا المعلومات، تملك حكومات العالم هوامش مالية تتيح لها تعزيز معايير الأمن السيبراني وعدم التمييز، إضافة إلى تحميل الشركات مسؤولياتها عن اختراق القوانين السارية أو إهمالها في منع الاختراقات التي تطال البيانات. ويمكن أن تنفذ ذلك عبر إرساء نموذج الضربات الثلاث (الإنذارات الثلاثة المتتالية)، وعقب استنفاد الضربات الثلاث، تضحي الشركة خارج إطار الدخول في سوق المناقصات.
في المقابل، يجب فرض حظر فوري على الشركات التكنولوجية الأكثر خطورة وشراً بغية منعها من بيع تقنياتها المضادة للديمقراطية. خلال العام 2021، توصلت وزارة التجارة الأميركية أخيراً إلى إضافة مجموعة “أن أس أو” NSO؛ الشركة الإسرائيلية التي أنتجت التطبيق التجسسي “بيغاسوس” Pegasus إلى “قائمة الكيانات” التي تقيد التجارة معها. وتوافق ذلك المصير بصورة جيدة مع أعمال تلك الشركة، حيث تلقى أداة “بيغاسوس” للتجسس رواجاً لدى الحكومات القمعية التي تسعى إلى مراقبة النشطاء والصحفيين والمعارضين السياسيين. وفي المقابل، جاءت تلك الخطوة متأخرة تماماً. فعلى مدار أعوام، ترددت الولايات المتحدة وبلدان أخرى بشأن حظر تلك الشركة التي صارت (على غرار شركات أخرى مشابهة) أشد قوة وأكثر تطوراً.
ولا تمثل التشريعات التنظيمية سوى جزء من مسار المضي قدما، إذ يجب على الدول الاستثمار بصورة وازنة في تكوين بنية تحتية رقمية تحت إدارة القطاع العام، وتعزيز البحوث الأكاديمية وتحسين المساحة الرقمية العامة. وإضافة إلى ذلك، تحتاج المجتمعات إلى إرساء ثقافة المبادئ الأخلاقية في التكنولوجيا والموثوقية وتحمل المسؤولية بما يفضي إلى إجبار الشركات على صنع قرارات صحيحة.
في أي وقت، قد يرفض فيه أشباه ماسك الامتثال للقضاة والمشرعين، سيشكل ذلك تذكيراً بحقيقة أن الدول تستطيع امتلاك اليد العليا في العلاقة مع الشركات، وإعلاء أولوية الحوكمة الديمقراطية إذا رغبت في ذلك بالفعل.
وفي المقابل، تحتاج الحكومات إلى انتهاج إصلاحات حقيقية ومنهجية لكي تستعيد سلطتها ثانية، وترسي حكم القانون.

*ماريتجي شآك: زميلة أكاديمية في “مركز ستانفورد للسياسة السيبرانية” و”مؤسسة الذكاء الاصطناعي المتمحور حول الإنسان”. بين العامين 2009 و2019، نالت عضوية البرلمان الأوروبي بوصفها بين ممثلي هولندا، وألفت كتاب “انقلاب التكنولوجيا، كيف ننقذ الديمقراطية من وادي السيليكون” الذي اقتبس منه هذا المقال.

Related posts

السمهوري: الثلاثي أمريكا بريطانيا فرنسا مطالبين بالاعتذار وتمكين الشعب الفلسطيني من الحرية وإقامة دولته المستقلة

هل فقد نتنياهو السيطرة على حربه؟ ‏